بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عمان
الهجوم الفلسطيني الناجح عسكريا على المستوطنات الإسرائيلية فيما يعرف بغلاف قطاع غزة أمس السبت كان مفاجأة تكتيكية وعملياتية ولكنه لم يكن أبدا مفاجأة استراتيجية.. ولكنها الغطرسة المتكررة لدولة الاحتلال العنصري. فلم يكف محللون من العسكريين والسياسيين المخضرمين الإسرائيليين خلال الأسبوع الماضي عن التحذير من تصعيد متوقع ستقوم به حركة حماس ومعها حركة الجهاد وظهرت عناوين صحفية متعددة من نوعية «حماس لماذا تستيقظون من النوم الآن؟..إلخ»
وقد كتبت قبل أسبوع كامل مقالا في إحدى المواقع العربية بالذكرى الخمسين لحرب أكتوبر تنبأت فيه أن غطرسة الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل لا تقل عن غطرسة فريق جولدا مائير الحاكم في ١٩٧٣، وأن هذه الغطرسة الحالية قد تقود إلى سوء تقدير مماثل لما حدث في 1973. وتنبأت في هذا المقال أن ليس هناك ما يمنع من أن تتعرض إسرائيل إلى مفاجأة وصدمة كبرى كصدمة عبور الجيش المصري للضفة الشرقية للقناة ولكنها ستكون أسوأ هذه المرة بسبب التطور التكنولوجي وظهور مفهوم وحدة الساحات على الجانب الفلسطيني والعربي المقاوم والذي قد لا يحتاج إلا إلى ثوان وضغطة زر تطلق إما هجوما صاروخيا أو تطلق هجوما سيبرانيا قد يعطل القيادة الإسرائيلية ويشل تفكيرها. وبعبارة أوضح أنه رغم كل التنازلات التي قدمها قادة عرب في اتفاقيات سلام وتطبيع، فإن ما حققته حرب أكتوبر من كسر لنظرية الأمن الإسرائيلي مازال قائما وأن التفوق النوعي ونقل المعارك لأرض الغير كسلوك استراتيجي للدولة العبرية لن يحولا دون تعرض إسرائيل لزلزال وجودي آخر.
وهذا ما حدث فعلا (فالمفاجأة التكتيكية والعملياتية وليست الاستراتيجية) التي حققها الفلسطينيون في الهجوم لعب فيه الرشق الصاروخي الدور الأكبر، كما تحدث محللون فلسطينيون السبت عن احتمالات تلاعب «سيبراني» سمح بإرباك وتشويش وسائل الإنذار العسكري الإسرائيلي وسمح لعملية «طوفان الأقصى» وفي اليوم التالي «ليوم كيبور» أيضا وهو أكبر الأعياد الإسرائيلية في تكرار مذهل للنجاح العربي في مفاجأة إسرائيل بالضبط كما حدث في ١٩٧٣. ولم تكن المباغتة التكتيكية الكاملة في انهيار الدفاعات العسكرية عن المستوطنات كما انهارت دفاعات خط بارليف قبل 50 عاما على جبهة قناة السويس لنقص في المعلومات والتحذيرات من وجود دوافع ملحة إلى التحرك الفلسطيني لعمل عسكري كبير ولكن بسبب الغطرسة الإسرائيلية التي استهانت بكل هذه المعلومات كما استكبر في 1973 الثلاثي دايان واليعازر وإيلي زاعيرا.
امتلكت حماس كل الدوافع الموضوعية والذاتية لشن الهجوم الذي وقع فيه أكبر عدد من القتلى والمصابين الإسرائيليين ربما منذ حرب سبتمبر ٢٠٠٦ مع حزب الله في جنوب لبنان.. ولم تكن هناك مفاجأة استراتيجية من أي نوع:
تراجعت الموارد المالية لحكومة حماس التي تدير القطاع تراجعا كبيرا بسبب تناقص التدفقات المالية من قطر والتي كانت تمثل أحد عناصر الهدوء النسبي في غزة بين ٢٠٢١ و٢٠٢٣ من قبل حماس كما زادت عمليات التضييق المستفزة من قبل حكومة نتانياهو وبن غفير وسمو تيرش على دخول العمال الفلسطينيين من قطاع غزة للعمل في إسرائيل وهو مصدر دخل آخر بالغ الأهمية لأسر القطاع المحاصر وكان لحكومة حماس المسؤولة عن شعب القطاع التحرك لإجبار الجميع على أن القطاع يموت اقتصاديا وتنهار بنيته التحتية في الصحة والكهرباء والطاقة..إلخ. ورغم سوء الأوضاع في القطاع فإن حكومة نتانياهو التي يشل قراراتها وزراء متطرفون مثل بن غفير تباطأت أسابيع وأشهرا في الاستجابة والموافقة على توصيات من المؤسسة العسكرية والأمنية لتخفيف معاناة القطاع وبالتالي منع اشتعال عمل عسكري. وتضمنت التوصيات التي لم تقر السماح بزيادة عدد عمال القطاع للعمل في إسرائيل، وفك الحصار الخانق على دخول البضائع إلى القطاع وتوسيط طرف ثالث مع قطر لإعادة ضخ مساعداتها المالية التي تنقذ القطاع.
ردت حماس بهذه الضربة المذهلة على التدهور الكبير في صورة حماس (النضالية) كحركة مقاومة في السنوات الثلاث الأخيرة. فقد تعرضت حماس لهجوم ضار معنوي وسياسي فلسطيني وعربي بسبب تركها للآلة العسكرية الإسرائيلية تستفرد بحركة الجهاد في غزة وفي الضفة الغربية خلال الفترة المذكورة لدرجة أن أحد أكبر دعاة الإخوان المسلمين «وهو الجذر الأيديولوجي لحركة حماس» نشر قبل عدة أسابيع فيديو يتهم حماس بأنها تخلت عن القضية وأصبحت والسلطة الفلسطينية سواء. (تلمح مصادر فلسطينية أن صمت رصاص حماس في السنوات المذكورة كان تكتيكا ذكيا من كتائب القسام لإخفاء استعداداتها الدقيقة لشن هجوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وتحقيق المفاجأة التكتيكية الكاملة التي صعقت المؤسسة الأمنية).
تمثل عملية طوفان القدس ضربة استراتيجية ستقلب كثيرا من الموازين في المرحلة المقبلة. فهي بامتياز ضربة وقائية موفقة تستهدف إفشال خطة مخيفة لتصفية القضية الفلسطينية التي تعكف عليها إدارة بايدن وحكومة نتانياهو تسعى فيها – دون نجاح كامل حتى الآن – لعملية تطبيع إسرائيلي كامل مع الدول العربية والإسلامية كدول من حجم السعودية واندونيسيا. السلطة الفلسطينية تبدو بكل ظروفها عاجزة عن مقاومة مثل هذه الخطة والنظام الإقليمي العربي أو ما تبقى منه بات أكثر عجزا. ومن شأن دخول المقاومة الفلسطينية لدعم قرار الخط الإقليمي- الدولي الرافض لإعادة المنطقة إلى مرحلة ما قبل اتفاق التطبيع. الإيراني/ السعودي الرافض للهيمنة الأمريكية على المنطقة وخطة بايدن – نتانياهو التطبيعية قبل حل عادل للقضية الفلسطينية من شأنه أن يعرقل هذه الخطة ويخلط كل الأوراق الأمريكية والإسرائيلية لفرض معادلة السلام مقابل السلام وليس السلام مقابل الأرض كما تصر المبادرة العربية وقرارات الأمم المتحدة.
بعد هذه العملية سنكون استراتيجيا أمام شرق أوسط مشتعل بحروب انتقامية إسرائيلية وردود فلسطينية بطولية عليها، شرق أوسط لن يكون ميسورا وسهلا فيه إنجاز صفقات سياسية كبرى كاتفاقيات التطبيع وبناء الممرات اللوجستية التي تضم إسرائيل ودولا عربية.