في محاولتنا الاستمرار في الحديث عن حرف “الألف” بوصفه مؤشرا دلاليا، يأتي ليُعبر عن إحدى أهم الظواهر في الرسم القرءاني، من حيث اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني للحرف فيه؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال عدم تثبيت الألف، يدل المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.
وكنا قد تناولنا، في أحاديث سابقة، عددًا من الأمثلة على هذا الحرف؛ مثل محاولة تحديد الفارق الدلالي بين “طَآئِفٞ” و”طَٰٓئِفٞ”؛ وأيضًا، بين “شَاهِدٞ” و”شَٰهِدً”؛ ثم، بين “طَغَا” و”طَغَىٰ”.
ولنا أن نُشير إلى ما وصلنا إليه، بالنسبة إلى هذا المصطلح القرءاني الأخير، من أن تثبيت حرف “الألف” في المصطلح “طَغَا”، يُضيف بُعد الارتفاع والعلو بالنسبة إلى تجاوز الماء الحد المادي العضوي؛ كما في قوله سبحانه: “إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ” [الحاقة: 11]. أما في حال عدم تثبيت حرف “الألف”، واقتصار الرسم القرءاني على “الألف المقصورة” أو “اللينة”، في المصطلح “طَغَىٰ”، فهي تُضيف بُعد السقوط لحال من “طَغَىٰ”، حيث الجانب المعنوي الوظيفي لـ”الطغيان” المنهي عنه بفحوى الخطاب القرءاني؛ كما في قوله تعالى: “ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ” [طه: 24]، وفي قوله عزَّ من قائل: “مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ” [النجم: 17].
هل هناك أمثلة أُخرى، في التنزيل الحكيم، على دلالات حرف “الألف”؟
بالنسبة إلى هذا التساؤل؛ لنا أن نؤكد أن الأمثلة القرءانية -في هذا الشأن- كثيرة ومتعددة. إذ، ضمن الأمثلة الدالة على حرف “الألف”، يأتي مصطلح “عِبَادٌ” حيث يثبت حرف الألف، في حين يأتي “عِبَٰدُ” حيث لا يثبت الحرف.
وقد ورد لفظ “عباد” ومشتقاتها في اثنين وعشرين موضعًا، ضمن آيات الذكر الحكيم؛ ثبت فيها جميعها حرف “الألف”، إلا في موضعٍ وحيد، جاء فيه المصطلح دون تثبيت الحرف “عِبَٰدُ”؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡـَٔلُونَ” [الزخرف: 19].
وهنا، لنا أن نؤكد على اختلافنا مع ما ذكره الباحث عمر عبد الهادي عتيق، في بحثه الموسوم “العلاقة بين رسم القرءان الكريم والدلالة، 2010″، حول مصطلح “عِبَٰدُ”، في الآية [الزخرف: 19]؛ إذ، هو يُشير إلى أن “موضع الحذف (حذف حرف الألف)، قد قُرئ “عند”، على اعتبار أنها ظرف، وهي قراءة ـ وما زال الكلام للباحث ـ تدل على شرف منزلة الملائكة وفضلهم على الآدميين”.
ودون الدخول في تفاصيل كثيرة تخص مناقشة مدى الصحة في مقولة “شرف منزلة الملائكة… على الآدميين”، حيث إن هذه المقولة تأتي اعتمادًا على تفاسير “تراثية” لآيات الذكر الحكيم؛ وهنا، سوف نكتفي بقوله سبحانه: “وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا” [الإسراء: 70]. أما بالنسبة إلى مقولة: “فضلهم على الآدميين”، فسوف نكتفي بقوله تعالى: “وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٭ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٭ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ” [البقرة: 31-33].
أما بالنسبة إلى قراءة المصطلح “عِبَٰدُ”، على اعتبار أن موقع اللفظ ظرف، وأنه قُرىء “عند”؛ فهو ليس عندنا بشيء. إذ، إن حرف “الألف”، كمؤشر دلالي، في حال عدم تثبيته؛ يدل على الجانب الوظيفي، أو الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح؛ ولنا أن نُلاحظ، كدليل، أن سياق الآية الكريمة يأتي مشمولًا بعدم تثبيت حرف الألف، في أكثر من مصطلح ورد فيها “ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ… عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ… إِنَٰثًاۚ… شَهَٰدَتُهُمۡ…”.
فالملائكة، إذًا، “ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، هم عباده سبحانه وتعالى؛ من حيث إن عبادتهم هذه لا عصيان فيها، وإن طاعتهم لا رفض فيها، ولا اختيار؛ بما يؤكد على الجانب الوظيفي لمصطلح “عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ” في الآية الكريمة. ولنا، هنا، أن نتأمل رد فعل “ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ” الدال على ذلك، بالنسبة إلى جعل آدم، عليه السلام، “فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ”؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30].
رغم ذلك، والحق يُقال، فإننا كنا قد اقتربنا من أطروحات الباحث بشكل كبير، في أمثلة أُخرى على دلالات حرف “الألف”؛ وتحديدًا في ما يتعلق بالمصطلح “شَاهِدٞ” و”شَٰهِدً”.
مصطلح “عِبَادٌ”
أما في حال تم تثبيت حرف الألف، في مصطلح “عِبَادٌ”، فيأتي الحرف للدلالة على الجانب المادي العضوي في المصطلح القرءاني؛ ولنا في المقارنة بين عدم تثبيت حرف الألف في مصطلح “عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، وبين تثبيته في المصطلح نفسه “َعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”؛ ما يؤكد، من جديد، على اختلاف الدلالة بين الجانب الوظيفي الذي يؤشر إليه المصطلح في صورته الأولى “عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ” [الزخرف: 19]، وبين الجانب المادي العضوي، الذي يؤشر إليه المصطلح في صورته الأُخرى “َعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، في قوله سبحانه وتعالى: “وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا” [الفرقان: 63].
إذ، لنا أن نُلاحظ أن سياق الآية الكريمة يؤكد على الجانب المادي العضوي لـ”َعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، من خلال لفظتي “يَمۡشُونَ” و”قَالُواْ”؛ حيث يتم تعريفهم في الآية بأنهم “ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا”؛ فضلًا عن أنهم “قَالُواْ سَلَٰمٗا” في حال خاطبهم “ٱلۡجَٰهِلُونَ”.
ولعل ذلك، يتأكد مرة ثانية عبر ورود مصطلح “عِبَادٌ”، في قوله سبحانه: “يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ” [يس: 30]؛ حيث يؤكد سياق الآية الكريمة على الجانب المادي العضوي لهؤلاء “ٱلۡعِبَادِۚ”. بل، ويتأكد، أيضًا، من خلال قوله تعالى: “إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ” [الأعراف: 194]؛ إذ، لنا أن نُلاحظ كيف أن التعبير القرءاني “عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ” دال في هذا الإطار.
وللتأكيد، لنا أن نتأمل السياق القرءاني الذي ترد فيه الآية الكريمة، مع الآية التالية لها مباشرة؛ حيث يقول عزَّ وجل: “إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٭ أَلَهُمۡ أَرۡجُلٞ يَمۡشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَيۡدٖ يَبۡطِشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡيُنٞ يُبۡصِرُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ” [الأعراف: 194-195].
وللحديث بقية.