رؤى

سلوى حجازي تتغنى بالإنسان.. وتنشد له الخير

* كتب الشاعر الراحل محمود عبده حسن هذا المقال قبل رحيله الذي كان في ديسمبر 2021.

 ربما لا يعرف كثيرون من هى سلوى حجازى, خاصة من ولدوا فى عام رحيلها وربما أيضًا، لا يعرف من عرفها  كمذيعة فى التليفزيون, أنها كانت شاعرة كبيرة, نعم كانت سلوى حجازى شاعرة كبيرة غير أنها لم تكن تكتب شعرها باللغة العربية, بل كانت تكتبه باللغة الفرنسية, وأصدرت فى حياتها ديوانين شعريين هما: “ظلال وضوء” و”أيام بلا نهاية” ويحتوى هذا الكتاب على ترجمة للديوانين كاملين، كما كتبت قصصًا للأطفال مثل: “شجرة الياسمين و”عصفور الصباح” وتركت ديوانين مخطوطين هما “إطلالة و”سماح” لم يعثر عليهما أحد بعد وفاتها.

حصلت سلوى حجازي على جوائز أدبية من فرنسا, لم يحصل عليها شعراء فرنسيو الأصل, فقد أهدتها الأكاديمية الفرنسية ميدالية ذهبية في مجال الشعر، وذلك عام 1964، ونالت ميدالية ذهبية أخرى فى مسابقة الشعر الفرنسى الدولية.

كانت سلوى حجازى قد ولدت  في الأول من ينايرعام 1933 واشتهرت كمذيعة للعديد من البرامج، أشهرها برنامج الأطفال الشهير “عصافير الجنة”، وقد كتب النقاد الفرنسيون دراسات نقدية عن أشعارها, وكرَّمها بيت الشعر الفرنسى فى أسبوع ربيع الشعراء فى ستينات القرن الماضى، وكتب عنها الشاعر صالح جودت كتابا سماه “سلوى.. البشر, الحب, الموت” كما شارك كلٌّ من الشاعرين أحمد رامي, وكامل الشناوي في ترجمة قصائد من ديوانها “ظلال وضوء” من الفرنسية إلى العربية، أما رحيلها فكان إثر حادث تفجير طائرة عام 1973.

كانت هذه الكلمات من مقدمة هذا الكتاب الضخم الذى يتضمن ترجمة كاملة  لشعر الشاعرة الراحلة والمذيعة التليفزيونية سلوى حجازى للمترجم الشاعر عاطف محمد عبد المجيد.

يتضمن الكتاب  ترجمة ديوان “ظلال وضوء” و ديوان “أيام بلا نهاية ” وقد صدرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتقدم هذه الترجمة ميراث سلوى حجازى الشعرى بما يمثله من قيم، وتجربة شعرية تنبِئ بشاعرة حقيقة, فضلت العيش في محيط ضيق ونافذة لا تطل إلا على عوالم لا يراها سواها، مُلئت هذه العوالم بأخيله تموج فيها رائحة الحدائق والربيع والزهور، تتغنى بالإنسان وتنشد له الخير وتجعل من نشيد الطفولة أغنيتها الباقية والنداء الدائم. ابتعدت فى كتابتها  للشعر عن لغتها الأم “العربية” وفضلت أن تجعل شعرها يصدح فى العالم كله، عندما كتبت شعرها بالفرنسية، وأبقت على إطلالتها، مذيعة لها جمهورها ومشاهدوها بابتسامة معهودة وروح كلها أمل وسعادة.

رأت فى الشعر مجالا رحبا وأفقا للتحليق، وجعلت من أسفارها  تجارب ذاتية لشعرها.

تمتاز أشعار سلوى حجازى بالسهولة والبساطة مقتربة من كل ما هو إنسانى، وقد عاشت سنواتها الأخيرة تتعذب عذابًا نفسيًّا مكبوتًا, رغم ابتسامتها الحلوة على الشاشة. كانت تحس أنها ستموت فى زهرة العمر, وأنها ستموت فى كارثة, وأنها ستترك صغارها وحيدين، كما قال الشاعر صالح جودت فى كتابه عنها، وفى المقدمة التى كتبها الشاعر أحمد رامى للطبعة الفرنسية من ديوانها “ظلال وضوء” يقول: لو أن الشاعرة سلوى حجازى صاحبة هذا الديوان قد صورت على  هيئة الطير, لكانت بلبلا يرفرف على غصنٍ ندي, مرسلا أغنية يطرب لها الظل والماء. ولو أن لهذه الطائفة من الشعر نسخة مسموعة, لطرب من يصغى إلى هذا البلبل, لبدع توقيعه وحسن ترجيعه. هذه هى الصورة التى أراها للشاعرة, كلما سمعت منها قطعة من الشعر صاغتها من صميم وجدانها, وصبغتها بألوان خواطرها, ورددتها على وقع خفقات القلوب، ويضيف رامى فى مطلع حديثه عن هذا الديوان: فى هذا الديوان شعر ينبجس من قلب رقيق, وينحدر من ينبوع روح صافية. وهو شعر عاطفى إلى أبعد الحدود, يتناول أغراضًا تمس كل نفس, وتسرى فى كل روح, ويكاد يهجس بها كل خاطر, وهو شعر يجلو الحياة بأبهى مظاهرها, من جمال يشيع فى كل ركن, وضياء يبسم فى كل ظل, وهو شعر يصف من ينعم فى هذه الحياة باجتماع شمل, أو رفاهة عيش, ويصور كذلك من يشقى بها من لوعة فراق أو من طيف شقاء. وشعرها صادق فى تصويره, حسن فى تعبيره, ينبع من نفسها فيصل إلى كل نفس, وينطلق من فيها فيسكن حبة كل قلب.. ترى بعد هذا التحليق مع رامي من خلال قراءته لهذا الديوان الذى تناول فيه رؤيته لحس الشاعرة ورأى فيه كل صنوف الجمال وصوره, اطلاع رامي على الفرنسية وقراءته للشعر الفرنسي ولشعرائه مثل شعر سلوى حجازى المكتوب بالفرنسية، إنه يفوق جمالا وصدق تجربة شعر أكثر هؤلاء الشعراء, لقد رأى فى شعر سلوى حجازى صورة جمالية تفتن النفس وتجعلها تأتنس مع تجاربها ومع هذا التحليق فى فضاءات علوية..

في مطلع ديوانها الأول “أيام بلا نهاية” تهدي سلوى حجازي قصائد هذا الديوان إلى من يزينون حياة الأحلام وإلى من بالأفكار يثرونها، فى إشارة منها أن الكلمات التالية هى مجال خصب للتحليق فى دنيا من الأحلام مع روح شاعرة تأخذهم إلى عالم رحب مليء بزهور تحلم معها بعيدًا عن غبار الحياة، إذا كان ليس بالمقدور التغيير إلى الأجمل، تقول الشاعرة:

ساعة أن..

يزعجنى العالم

ولا أستطيع أن أغيره..

أنطوي

على نفسي

وأجعلني

أ

ح

ل

م.

“أيام بلا نهاية” ص 11

وفى العالم الفسيح تتسع رؤية الشاعرة وحقائق الأشياء تنبئ بفرحتها عندما ترى الطبيعة فى عطائها الحقيقى, وتبصر تفتّح الأزهار مع مقدم فصل الربيع.

فى قصيدة “سواك” تتغنى الشاعرة بالربيع كأنه عرس لا ينتهى, وفيها رؤية الشاعرة للجمال الذي تراه فى كل الحدائق عبر أخيلة تموج بروائح الأزهار ورؤية اليمامات البيضاء فوق الأشجار, وسردها لمشاهد هى من روعتها تنبئ بروحها الطوافة، ورغم فتنة الربيع ومدارك هذه البهجة، لا يستطيع الربيع بكل هالاته وتفتح أزهاره وصوره أن يُنسى الشاعرة حبها وحنينها للوطن وبُعدها عنه تقول الشاعرة:

أوه

هذا حقيقي

هو ذا الربيع الذى يهل

رغم الزهور التي تبكي

فوق الأغصان

رغم الدموع الأسيرة

المليئة بالصمت.

نعم..

هذا حقيقي

إنها رائحة أشجار البرتقال

نعم إنه سرب يمامات بيضاء

توشي الأغصان المضيئة

التى تتمايل.

نعم إنه الربيع

لكنني لم أحلم به

طالما

لم يستطيع أن يبهجني

كما يفعل كل عام

فالهواء مثقل

بالأريج…

ومثقل

بالكآبة قلبى.

إنه حنيني

الذى يتكرر

إلى الوطن.

“قصيدة سواك” ص17,18,19.

 فى محاكتها وتأثرها الشديد بقصيدة الشاعر الفرنسي أراجون، “معاق” هذا  الشاعر الذى عُرف بمواقفه في قضايا الشعوب وسعيها نحو الحرية التي تنبئ عن حس  الشاعرة وارتباطها بالإنسانية، وتأثرها بفكر هذا الشاعر وتقديرها لدفاعه عن الحق والعدل، تقول الشاعرة مخاطبة أراجون:

أراجون

زميلى العزيز

أراجون

أبتغي

أن تكون قد تخطيتني

في “حسرة”

لقد صرخت قائلا:

“ربيعنا أن نكون معا”

فى مايو 1940

في قصيدتك “معاق”

التي كنت أبتغي

أن أكون

أول من يحس بها

الوحيدة التى تكتبها

أبتغي

أن ينحني الناس

أمام تأوهي

كالزهور التي تبكي

فوق الأغصان

دموعًا أسيرة

مليئة بالصمت.

“قصيدة  سواك” ص19, 20

رؤية الشاعرة للحرية وتطلعها إلى عالم حر طليق, عالم يشدو بكل القيم الإنسانية, هكذا كان إحساس الشاعرة وهكذا جاءت تجربتها.

فى قصيدتها “العصفور الغريب” تصور الشاعرة هذا العصفور الحبيس الذى يتوق للطيران؛ لكنه حبيس القفص, عاجز عن الحركة لا قدرة له على المغادرة. هو فى حديقة ملئت بالأزهار، لكنه يفتقد الحرية. ولعل الرسالة التي عبّرت عنها الشاعرة عبر كلمات هذه القصيدة، هي عجز الإنسان عن رؤية الجمال وهو حبيس نفسه, عاجز عن الرؤية مشلول الإرادة.. وهذا ما لا تريده الشاعرة وتقف ضده.

جاءت بالعصفور كرمز لهذا السعى ساردة، بأسلوب شاعرى وكلمات فى غاية التصوير محاولاته إلى الحرية هروبًا من سجنه الأزلى..

” القفص مفتوح

لكن العصفور

لم يعد قادرًا

على الطيران

لديه أجنحة

دائمًا

لكنه…

يشعر أنه مشلول

القفص مفتوح

فيما يلمح العصفور

الحدائق الصغيرة

يشتهى خضرتها

لكنه…

لا يقدر أن يلمسها

قصيدة “العصفور الغريب” ص23, 24″

تعددت أسفار الشاعرة سلوى حجازي واتخذت من  جغرافيا الأماكن التى زارتها مجالا  تكتب فيه قصديتها. عبر معجم خاص امتلأ بألفاظ رصينة, وخيال فيه من البعد والتحليق والخيال الواسع الممتد عبر تخوم ومفردات كثرت فيها مظاهر الطبيعة.

فى العديد من قصائدها ذكرت الشاعرة أسماء البلاد التى زارتها, وتأثرت بمعالمها وتاريخها, شاهدت من خلال عين المبدعة مظاهر الجمال فى هذه البلاد, ذكرت القطار ومن نوافذه  شاهدت عطاء الطبيعة وروعة الخلق, كتبت عنه قصائد “من القطار” و”داخل القطار” ثم “من القطار فجرا”.

وتحدثت عن الفضاء السماوى وذكرت الطائرة ورؤية الشاعرة إلى العالم من خلال أفق بعيد كطائر دائمًا يتغنى بصعوده وطيرانه.

في قصيدتها “مشهد طبيعى فى سرايفو”

تبصر الشاعرة حزن هذه المدينة, التى لم ترَ فيها إلا المقابر رغم وجود هذه الحدائق الخضراء, تحيط بهذا المشهد, وكأنها تنبئ بمصير سوف يأتى من آلة حرب شريرة:

الموتى قرب الأحياء

يتحاورون

فى العشب الاخضر

“مشهد طبيعى من سراييفو” ص96

أحبت الشاعرة الأطفال وتغنت بالأمومة, وظلت طوال حياتها تقدم برنامج “عصافير الجنة” طوال فترة الستينات، يلتف حولها الأطفال مغردة معهم, تزرع بداخلهم الحنين وتسقيهم من محبتها, تجمع حولها أطفال العالم العربي؛ لذلك جاءت بعض قضائد هذا الكتاب حبا للطفوله وشدوًا بها، وفى هذه القصيدة “صغيري قال لي”

تصوغ الشاعرة قصيدتها من خلال حوار بين ابن وأمه, يتمنى الابن ألا تكبر أمه وتظل كما يراها زهرة يانعة, وهى مهارة وصدق تجربة, وأخيلة من واقع هذا النداء الإنسانى, بروحها الطوافة المرحة, وفى لفتة إنسانية عالية تصوغ المشهد بمهارة وتبدع قصيدتها بأسلوب صادق وكلمات تحاكى الوجدان:

أمي

أمي

لا تكبري فى السن

لأنك لو كبرت

ذات يوم

لاقتلعت

كل شعرك الأبيض

وألقيت به

فى وجه الريح

كيما تظلين دائما

أمي الرائعة…

“صغيري قال لي” ص139, 140

وفى قصيدة “برعمي” تنادى الشاعرة طفلتها, التي كبرت أمامها, وأصبح هذا البرعم زهرة ندية, إحساس الأم العالمى وارتباطها مع هذا النمو, ومشاهدة التغير الذى طرأ على ابنتها لا تصدق إنها يومًا ما كانت بذرة ترعاها وتحنو عليها إنها الإنسانية جسدتها الشاعرة فى أرق صورها وأصدقها.

بالأمس

كنت طفلة

لكنك اليوم

لم تعودي كذلك

أنا فيك هذي التحولات

لا أستطيع أن أصدق عيني

المنبهرتين

حيث إنك كنت

ذات يوم

داخل جسدي

كبذرة

داخل ثمرتها…

ويمتد الحديث عن  شعورها الصادق بالإنسانية, وهو حس الشاعرة وشعورها بأطفال العالم فى الدول النامية, وتعاطفها معهم, في قصيدتها “الجوع”

تحدّث صغيرها وتخبره باحتياج هؤلاء الأطفال الفقراء إلى الطعام فلا يجدوه,

لا تعبس يا صغيري

كُلْ أى فتات

واحمد الله

على تقديمه لنا

هذه المأدبة

واعلم

أنه فى أماكن أخرى

ثمة أطفال مثلك

يمتصون أثداء أمهاتهم

حتى الدم

أو..

يأكلون حشائش الحقول

أو..

يموت الواحد منهم

قائلا:

أنا جائع يا أمي.

“قصيدة الجوع” ص141و142

إحساس الشاعرة بالرحيل كما قال الشاعر صالح جودت جعلها تكتب هذه القصيدة التى تودع فيها صغارها, وهى رسالة إلى كل الصغار، رسالة تقطر محبة صافية وحنينًا إليهم, هؤلاء الذين مثلت لهم الشاعرة أمًّا تحضنهم جميعا, اسشتراف الشعر وآفاقه البعيدة, جعل الشاعرة ترسل هذه الرسالة مصورة فيها الفراق وباكية عليه, لنضع أنفسنا أمام شاعرة عاشت بصدق, وتغنت بكل قيم الخير والمحبة والرحمة أيضا

تقول الشاعرة:

تصبحون على خير

تصبحون على خير يا أعزائي الصغار

فأنا لا أدري

هل سأكون غدا

لا أدري

هل سأكون هنا غدا

لا أدري

هل سنكون معا؟

تصبحون على خير يا أعزائي الصغار

فالعالم يدور

يدور…

وكأنه دوامة…

“قصيدة نم..نم” ص143و144

هذ هو الشعر، وهذه هى رؤيته, وها هي سلوى حجازي الشاعرة, التى أبدعت هذه الكلمات, التى لم يرَ فيها جمهورها سوى إطلالتها عليهم مذيعة, لكن عطاءها فى الشعر اقتصر على حياة الشاعرة وعزلتها فيه.

ولعله من خلال هذا الكتاب، كما يشير مترجمه إلى العربية  الشاعر عاطف محمد عبد المجيد، يكتشف القراء شاعرة كبيرة بحجم سلوى حجازي وروحها, ويظل الكتاب برهانًا على أى عمل جيد, سيظل ينتظر من ينفض عنه تراب الزمن مهما طال الانتظار, وأن يأخذ حقه من الذيوع والانتشار, طالما أنه يمتلك مقاييس الجودة والإبداع الحقيقى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock