رؤى

مكة المُكرّمة.. المدينة المقدسة وآفاق التحديث!

“أهل مكة أدرى بشعابها” يبدو أن هذا المثل لم يعد صالحا تماما في أيامنا هذه؛ بعد أن اختفت تلك الشعاب والوديان والتلال ومعها 95% من معالم مكة التاريخية تحت الأبراج الشاهقة التي يتجاوز أكثرها ارتفاعا حاجز الـ600 مترا.. ويعد هذا البرج الأكبر مساحة في العالم، بينما يظهر برج الساعة الذي يحتل فندق فيرمونت عدة طوابق منه، إلى جانب عدد كبير من المراكز التجارية والمطاعم العالمية التي لا تخدم إلا طبقة الأثرياء.

في العام1964، زار مالكوم إكس، مكة وقضى بها عدة أيام.. كان انبهار الرجل بالمدينة واضحا؛ حتى أنه قال: “إن الجمال المعماري للحرم يتجاوز جمال قصر تاج محل بكثير”. لا شك أن مالكوم سيصاب بالدهشة؛ لو قُدِّرَ له زيارة المدينة المقدسة اليوم، ورؤية(KFC) على بعد خطوات من أبواب الحرم!

يذهب البعض إلى أن تغيير المعالم التاريخية للمدينة على هذا النحو- يرتكز على أساس عقدي تدعمه السلفية الوهابية واسعة الانتشار في الجزيرة العربية.

فعندما اكتشف بيت السيدة خديجة – رضي الله عنها- في 1989، سارعوا إلى طمس معالمه، ثم تحوَّل المكان إلى حمامات عامة قبل أن يدخل في توسعات الحرم.. من المعروف أيضا أن المنزل الذي ولد فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- استخدمت مساحته كسوق للماشية لفترة طويلة، قبل أن تقام مكانه مكتبة لا يُسمح للناس بالتردد عليها، ثم استخدم المكان كموقف للسيارات.

ويذكر الباحث ضياء الدين سردار أن بيت الصديق أبي بكر؛ احتل مكانه  فندق مكة هيلتون لفترة طويلة.. ويضيف سردار وهو باحث بريطاني قضى أربعين عاما في جامعة جدة يجري أبحاثا على الحج والبقاع المقدسة أن “مدينة مكة أصبحت تعاني من فراغ روحي وديني بعد أن غلب عليها الطابع المادي.

بالطبع.. فإن التخوّف المعلن للمتشددين في البقاع المقدسة هو الخشية من أن يقصد الناس هذه الأماكن للتبرك؛ فيقعوا في الشرك، أو أن تلهيهم هذه الأماكن عن ذكر الله.. لكن هؤلاء المتشددين لا يرون في مطاعم الاسباجيتي والهوت دوج ذات اللافتات الضخمة والإعلانات المضيئة -المنتشرة في المدينة المقدسة- أي خطر تشتيت للحالة الإيمانية التي يجب أن يكون عليها ضيوف الرحمن.

كما أن هؤلاء يغضون الطرف عن الأحاديث والآثار التي تُحذّر من التطاول في البنيان، ومنها ما ورد عن عبد الله بن عمرو إذ قال: “إِذَا رَأَيْتَ الْبِنَاءَ ارْتَفَعَ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ, وَجَرَى الْمَاءُ فِي الْوَادِي؛ فَخُذْ حِذْرَكَ” وقوله “إِذَا رَأَيْتَ مَكَّةَ قَدْ بُعِجَتْ كِظَامًا وَرَأَيْتَ الْبِنَاءَ قَدْ عَلا عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ أَظَلَّكَ”.

كانت “نيويورك تايمز” قد نشرت منذ عدة أعوام، تقريرا بعنوان “تدمير مكة” جاء فيه أن برج الساعة الملكي الذي بدأ العمل فيه 2012، قد قام على أنقاض 400 موقع من المواقع ذات الأهمية الثقافية والتاريخية، منها قلعة “أجياد” التي بناها العثمانيون لحماية مكة عام 1780، ويذكر التقرير أن النواة الداخلية للمسجد الحرام تحتوي على عدد من الأعمدة الرخامية المنحوتة على نحو بالغ الدقة والروعة، ومكتوب عليها أسماء بعض الصحابة.. ويعود تاريخها إلى مطلع القرن السادس عشر- هناك خطط لهدمها لتوسعة المناطق الداخلية من الحرم وإقامة مبان عصرية.

ويخشي التقرير أن تتحول زيارة المدينة المقدسة إلى رحلة للتسوق، تتخللها ممارسة بعض الطقوس، وأن التباعد  بين المجموعات صار واضحا لتفقد الشعائر أهم أهدافها وهو التقاء المؤمنين من شتى بقاع الأرض واجتماعهم في أكثر الأماكن قداسة بالنسبة لهم.

يشير الدكتور على عبد الرؤوف في كتابه “من مكة إلى لاس فيجاس” إلى أن المدينة المقدسة قد سقطت في براثن الرأسمالية المادية الباردة بشكل متعمد رغم وجود بدائل عديدة كان من الممكن أن تحفظ للمدينة قدسيتها، وتستوعب متطلبات التطوير والتوسعة المطلوبة لتيسير أعمال الحج والعمرة مع تضاعف الأعداد.. ويضيف د. عبد الرؤوف أن ما حدث في مكة لم تعرفه المدن المقدسة في أي مكان في العالم،.. ويطرح الكاتب رؤيته بوصفه معماريا يحاول فهم الأنماط الجديدة في العمران التي تغزو المدن القديمة خاصة المقدسة منها.. فيؤكد على أن تلك الأنماط تقيم جدلية مع البيئة الطبيعية والإنسانية وعلى هذا الأساس يمكن قياس مدى توافق هذا النمط أو ذاك مع البيئة.. ويتوصل الكاتب إلى أن درجة القبول البيئي في هذه الحالة بالغة الصغر في مقابل عوامل الرفض الواضحة والقاطعة في آن.

يصف الحاج نور الدين الإندونيسي تلك المشاهد الصادمة التي عاينها بحزن شديد أثناء زيارته للمدينة المقدسة عام 2010، فيقول: “لم أكن أتخيل أن تتحول مكة إلى مضمار للتسابق في الجشع البشري في بناء الأبراج.. إن المؤمن لا يستطيع أن يغفل ما ينبّئه به قلبه أن الوادي الأمين الذي انبعث منه النور للإنسانية قد شحبت صورته  تحت هذه الكتل الخرسانية.. فليسامحني الله إذا حملت كلماتي أي قدر من الإساءة لكن قلبي ينزف ألما”.. هكذا أنهى الحاج نور الدين شهادته.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker