ينفتح مشهد بائع البرتقال ربيع أبو حسن الصعيدي على عدد من الدلالات التي لا يمكن غض الطرف عنها.. يتعلق الأمر كثيرا بصدق المحبة والعطاء وآصرة الأخوة التي لم تنفصم أبدا؛ رغم كل الظروف. يتعلق الأمر أيضا بالعجز وقلة الحيلة والإعذار إلى الله من التقاعس عن نُصرة أهلنا المحاصرين في القطاع.. أعاد ربيع بحبات برتقاله وعيا كاد يخبو، وروحا كادت تروح.. في زمن الخذلان، ضعيف التأثير والأثر بفعل تسارع وتيرة الأحداث وثقافة “التريند” يقذف العم ربيع برتقاله في وجوهنا جميعا دون قسوة على سبيل الإيقاظ، فليس لديه اليوم بندقية ليقول كما قال نزار أواخر الستينات: إلى فلسطين خذوني معكم.
يستدعينا الرجل النحيل في جلبابه البسيط من خلف الشاشات، ومن عمق الأزمة الاقتصادية التي تعصف بغالبية المصريين.. ليقول لنا بمودة: إن تعلّق القلوب بفلسطين وأهلها ليس فعلا استثنائيا ولا نخبويا؛ بل هو شعور أصيل متجذر في هذا الشعب بمختلف طبقاته وفئاته.. فنحن منذ أن نعي إلى آخر لحظات الحياة لا تعرف أفئدتنا وجهة خارج مصر سوى تلك الوجهة المباركة العصية على الموت، الواهبة للحياة بتجدد النضال والألم.
يدعونا الرجل إلى عدم مخاصمة التاريخ بزعم الالتفات إلى واقع مضطرب؛ لأن البصيرة التي تلزمنا لتلمس طريق الخروج من نفق الأزمة؛ لا تضيء إلا بمصابيح صنعتها تلك الطبقات الممتدة في الزمن بتراكم الأحداث وعِبر الأيام.
لا مغالاة ولا تضخيم للمشهد على الإطلاق؛ فربيع أبو حسن القادم من مصر العُليا في سمته “الغلبان” هو في الحقيقة الذي كتب عنه سيد حجاب “وييجي شايل حمولها ويعدل المايل” بنبل وبساطة، دون سفسطة أو تقعير؛ لأنها سهلة جدا ولا تحتاج إلى أكثر من توكل صادق على الله؛ كذلك الذي يحوّل “الميركافا” إلى كومة من الصفيح الصدئ في مشهد هو أقرب إلى صلاة كونية، منه إلى لوحة بطولة لا يكاد العقل يصدقها لفرط فرادتها وحلاوتها.
لقد مر كثير منا من أمام “فرش” عم ربيع أبو حسن، فلم يستوقفهم شيء.. الأمر في الحقيقة بالغ العادية.. ربما لا ينتبه الرجل – نفسه- إلى تلك الحمولة الهائلة من الوعي واليقين التي تملأ وجدانه، لكنه جاء على قدر، حاملا الرسالة إلى الجموع لتنتبه إلى ضرورة المبادرة؛ حتى ولو بأقل القليل.. حتى لا يُغلق الباب الذي بيننا وبين الرجاء في الله بالنصر المبين.. وهو ما تكرر كثيرا على مر العصور وورد ذكره في الكتب بما يجل عن الحصر “ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” فإنما القوة لله جميعا، وقد رأينا حقيقة العدو وضعفه أمام تلك الكوكبة من المجاهدين الصابرين.
يتحدث ربيع عن رائحة أرض الرباط التي أحس بها تملأ الهواء من حوله؛ فودَّ لو حمل كل ثماره إلى أهله هناك خلف الأسوار العالية؛ ليست الثمار فحسب بل كل ما يملك من حطام الدنيا؛ رجا لله لو بذله راضيا؛ طعاما وريا ووصلا للأحبّة.. ليس عن تفضل ولا تكلف بل بدافع من إحساس قوي بالانتماء لهذه الأمّة الحيّة متمثلة في هذه الفئة الصابرة المحتسبة المرابطة في فلسطين.
لقد أعاد المشهد “الربيعي” بدلالاته المنفتحة على حقائق دامغة، غابت أو غُيّبت عن الكثيرين- الأمور إلى نصابها الصحيح؛ لتذهب كل الجهود والأموال التي بذلها المرجفون لقلب الحقائق وتجميل الوجه القبيح للعدو، تبريرا للتطبيع وتمريرا للخيانة بكل صورها- هباء منثورا، ليتسق المشهد مع غيره من المشاهد التي أعادت القضية الفلسطينية إلى وعي الشعوب الحرة حيّة صاخبة بالهتاف النبيل يملأ حناجر الشرفاء في أربعة أركان الأرض.
كل التحية للصعيدي الشهم الذي أعاد ببعض حبات من البرتقال نبتت في أرض مصر، وآتت أكلها في غزّة- إلينا وإلى أهلنا في أرض الرباط؛ ذاكرة كاملة من الحب والقرب والتعاضد؛ ظن الواهمون لشدة جهلهم، أنها قد ضاعت وانمحت إلى الأبد!
