ورد لفظ “بطن” ومشتقاته في آيات التنزيل الحكيم في 25 موضعا، بينما ورد لفظ “ظهر” ومشتقاته في 59 موضعا. وهنا يثور التساؤل: لماذا ورد مصطلح “ٱلظَّٰهِرُ” محذوف حرب الألف، في كافة آيات التنزيل الحكيم؛ بينما ورد مصطلح “ٱلۡبَاطِنُۖ” مع تثبيت حرف الألف في القرءان الكريم كله؟
“ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُۖ” من أسماء الله الحسنى؛ والحق سبحانه وتعالى “ظاهر” لنفسه “باطن” على خلقه، ولا يحتاج في ظهوره لغيره، مُتجلٍ بأسمائه وصفاته في مظاهر الوجود. يقول سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [الحديد: 3].
في كثير من آيات التنزيل الحكيم، وردت “ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ”، في حال من التلازم والتتابع؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَيۡمِنُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٭ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [الحشر: 23-24].
إلا أن “ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ” لم يرد أي منها في آيات التنزيل الحكيم عدا “مرة واحدة”، في هذه الآية الكريمة. وهنا في هذه الآية، لنا أن نُلاحظ كيف جاءت “واو” العطف بين “ٱلۡأَوَّلُ” و”ٱلۡأٓخِرُ”؛ وكيف جاءت أيضا بين “ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُۖ”؛ هذا بالإضافة إلى ورودها، أي “واو” العطف، بين “ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ” و”ٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ”.
إذ إن هذه هي الآية “الوحيدة” في آيات التنزيل الحكيم التي وردت فيها أسماء الله الحُسنى “معطوفة”، وذلك للدلالة على “عدم انطباق معادلات الزمان والمكان على الله سبحانه وتعالى” حيث إن الزمان والمكان -بمفهومهما الحالي- هما من صفات الأشياء والظواهر التي يحكمها قانون “التغير”.
وكما يبدو، فإن خاتمة الآية الكريمة “وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ”، تتكفل بكشف المعنى المقصود من الآية؛ إذ، نُدرك أن هذه الأسماء الأربعة منسوبة إلى ما يمكن أن نُطلق عليه محور الإحاطة والقدرة التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى.
وبمثل تلازم أولويته سبحانه مع آخريته تعالى، من حيث كونه سبحانه وتعالى “ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ”؛ يتلازم اسمه “ٱلظَّٰهِرُ” مع “ٱلۡبَاطِنُۖ”. إذ، ليس هو “ٱلظَّٰهِرُ” فحسب، وليس “ٱلۡبَاطِنُۖ” فقط، ولكنه عزَّ وجل “ٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ” معًا، في امتداد يتوجه نحو العمق، بمثل ما يستطيع به العقل الإنساني أن يستوعب؛ هذا مع التسليم بأن “لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ” [الشورى: 11].
الظاهر “لغة”، يعني الغلبة والقهر يُقال ظهر فلان على فلان أي غلبه؛ كما يعني المُحيط، ظهرت على سر فلان أي اطلعت عليه وأحطت به، وظهرت على فلان أي علوته، ومنه قوله سبحانه: “عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ” في قوله تعالى: “وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفٗا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ” [الزخرف: 33]؛ والظاهر “صفة”، هو الغالب العالي على كل شيء، ومنه قوله سبحانه: “فَأَصۡبَحُواْ ظَٰهِرِينَ”، في قوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِۖ فَـَٔامَنَت طَّآئِفَةٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٞۖ فَأَيَّدۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَٰهِرِينَ” [الصف: 14]، أي غالبين عالين.
والبطن خلاف الظهر؛ و”الظاهر” اسم فاعل لمن اتصف بالظهور، و”الباطن” اسم فاعل لمن اتصف بالبطون. ومعنى البطن، ماديًا، جوف الشيء؛ كما في قوله تعالى: “وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ” [النحل: 78]؛ أما دلاليًا، فالبطن تؤشر إلى “مضمون الشيء”، أو بالأصح “المختفي والمحتجب عن الأنظار”، كما في قوله عزَّ من قائل: “وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ” [الأنعام: 151].
وفي الواقع المُعاش، الباطن أثبت من الظاهر؛ حيث إن ظاهر الأشياء لا يثبُت، فبعض الظواهر، في توقيت زماني مُعين، هي إلى زوال.
أما قرءانيًا.. فيأتي مصطلح “ٱلظَّٰهِرُ” محذوف حرف الألف، كمؤشر دلالي على الجانب الوظيفي للمصطلح؛ ويأتي مصطلح “ٱلۡبَاطِنُۖ” مع تثبيت حرف الألف للدلالة على الجانب العضوي المادي للمصطلح.
وضمن آيات التنزيل الحكيم التي ورد فيها مصطلحي “ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُۖ”؛ يأتي قوله سبحانه: “هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ” [الحديد: 3]. وفضلًا عن المُلاحظة التي أشرنا إليها من قبل، بخصوص حركات “العطف” في الآية الكريمة؛ لنا أن نُلاحظ مصطلحي “ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُۖ”، من منظور الرسم القرءاني.
وهنا، أيضا، لنا أن نؤكد على أن القول الوارد في كثير من التفاسير، والذي استند إلى رأي الزَّجَّاجُ، بأن “ٱلۡبَاطِنُۖ” هو “العالِم بما بَطَنْ”، بمعنى “كونه باطنًا، أي عالِمًا ببواطن الأمور”؛ نقول: أن هذا الرأي ليس عندنا بشيء؛ وأن هذا الرأي لو كان صحيحًا، كان قوله سبحانه وتعالى: “وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ”، تكرارًا، وهذا مُحال لأن القرءان الكريم ليس فيه أي تكرار، حتى ولو وردت بعض الكلمات المتشابهة في مواضع مُختلفة؛ إذ، العبرة بدلالات السياق.
أيضا، ضمن آيات التنزيل الحكيم التي ورد فيها مصطلحي “ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُۖ”؛ يأتي قوله سبحانه: “أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ” [لقمان: 20]. وكما يبدو، تؤكد الآية الكريمة من جديد، على حرف الألف بوصفه مؤشرا دلاليا. ومن حيث إن “نِعَم الله” منها نِعَمٌ “ظَٰهِرَةٗ”، ومنها “بَاطِنَةٗۗ”؛ ولأن ظاهر الأشياء لا يَثْبُت، والنِعَم الظاهرة قابلة للزوال أو التغير (الصحة، المال، المركز الاجتماعي.. إلخ)، لذا ورد مصطلح “ظَٰهِرَةٗ” محذوف حرف الألف، للدلالة على الجانب الوظيفي، والمعنوي، للمصطلح؛ في حين ورد مصطلح “بَاطِنَةٗۗ” مُثبت الألف، دلالة على الجانب المادي، العضوي، الثابت، للمصطلح؛ مثال: “الإيمان” (وليس مظاهر الإيمان)، و”الاعتقاد” (وليس مظاهره).
ولعل ذلك ما يتأكد من خلال قوله سبحانه: “وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡسِبُونَ ٱلۡإِثۡمَ سَيُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُواْ يَقۡتَرِفُونَ” [الأنعام: 120]؛ وقوله تعالى: “يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ” [الحديد: 13].. وللحديث بقية.