رؤى

علم “الدلالة القرءانية”.. ودلالة مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ”

في الحديث حول علم “الدلالة القرءانية”، يمكن التأكيد على أن محاولة البحث في هذه الدلالة، هي محاولة في تحديد ملامح الرؤية القرءانية في كيفية بناء “عالم الوجود”، والمكونات الرئيسة لهذا العالم، والعلاقات التي تربط بعضها ببعض. بهذا المعنى يكون البحث في علم “الدلالة القرءانية”، وبهذا المعنى أيضا تكون الإضافة التي يُقدمها هذا العلم إلى علم “المصطلح القرءاني”.

وإذا كان البعض يرى أن محاولة وضع اليد على المصطلح القرءاني، من حيث المفهوم والمعنى، هي محاولة تتسم بالسهولة؛ خاصة إذا كان المطلوب، كما قد يظن هذا البعض، أن نُحدد المصطلح المراد بحثه، ومعناه في “اللغة العربية”، ودلالته بناءً على هذا المعنى اللغوي في القرءان الكريم. إلا أن المسألة، ليست بهذه السلاسة؛ بل على العكس من ذلك تمامًا.

فالمسألة – من المنظور الدلالي- ليست مجرد اختيار بعض المصطلحات، والبحث عن مفهوماتها القرءانية وفقط؛ لأن هذه المصطلحات، وما يُقابلها من مفاهيم، ليست موجودة في السياق القرءاني بشكل مُستقل عن المصطلحات الأخرى؛ بل إن كل منها تعتمد على الأُخريات اعتمادا قويا، وتستمد معانيها المحددة على نحو دقيق، ومن ثم دلالاتها، من نظام العلاقات والتفاعل الدلالي بينها جميعا في السياق القرءاني العام.

إن المثال الذي نود الاستشهاد به -في هذا المجال- هو مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ”. ولفظ الكتاب يُشير إلى “جمع عناصر موضوع مُحدد لاستخراج معنى مُفيد”. ومن ثم، فإن ذكر كلمة “كتاب” دون إضافة صفة هذا الكتاب، يكون المعنى ناقصًا؛ إذ لابد من الإجابة على التساؤل “كتاب ماذا؟”. هذا هو المعنى “الأصلي” لكلمة “كتاب”، الذي يُصاحب الكلمة أينما وردت، سواء في إطار السياق القرءاني أم خارجه.

وقد ورد المصطلح مرات متعددة في آيات التنزيل الحكيم؛ كما في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا” [النساء: 103]؛ وكما في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ” [آل عمران: 145]. فهاتان الآيتان الكريمتان تُشيران إلى كتابي “الصلاة” و”الموت”. فالصلاة، كموضوع تعبدي على الإنسان المؤمن إقامته، ليست مجرد “كتاب”؛ بل هي “كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا”.. أما كتاب الموت، فيأتي لييُشير إلى مجموعة العوامل التي تؤدي – حال تجمعها مع بعضها البعض- إلى الموت؛ ورغم أن هذا الكتاب “كِتَٰبٗا مُّؤَجَّلٗاۗ”، إلا أن الموت لا يحدث “إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ”.

بيد أن الأمر الجدير بالتأمل والانتباه في آن، أن مثل هذه الكتب، تأتي ضمن كتب مُتعددة تتضمنها آيات التنزيل الحكيم؛ كما يؤكد ذلك قوله عزَّ من قائل: “رَسُولٞ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفٗا مُّطَهَّرَةٗ ٭ فِيهَا كُتُبٞ قَيِّمَةٞ” [البينة: 2-3].

وهنا نتفق تماما مع مقولة المفكر السوري محمد شحرور -رحمه الله- في أنه من الخطأ أن نظن أنه عندما ترد كلمة “كتاب” في المُصحف، أنها تعني كل المُصحف؛ لأن الآيات الموجودة بين دفتي المُصحف، من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، تحتوي على عدة “كُتب” (مواضيع)، وكل كتاب من هذه الكتب يتضمن عدة كتب؛ فمثلًا كتاب العبادات يحتوي على كتاب الصلاة وكتاب الصوم وكتاب الزكاة وكتاب الحج.. وهكذا.

إلا أن الاختلاف بيننا وبين شحرور، يتعلق بالحال الذي يَرِد فيه مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ” مُعرَّفًا؛ إذ في هذه الحال فهو لا يحتاج إلى تعريف، فضلا عن أنه يعني آيات التنزيل الحكيم، وموضوعاتها، التي أُوحيت إلى الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام؛ وهو ما يتبدى بوضوح من خلال قوله سبحانه: “الٓمٓ ٭ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ ٭ نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ ٭ مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ” [آل عمران: 1-4].. وأيضًا، عبر قوله تعالى: “وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٭ رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ٭ رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [البقرة: 127-129].

وهنا، لنا أن نُلاحظ أنه في حال ورود مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ” مُعرَّفًا، كما في الآية الثانية من السورة الثانية في القرءان الكريم، نعني قوله عزَّ وجل: “الٓمٓ ٭ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ” [البقرة: 1-2].. فإن المصطلح يكتسب “شحنة دلالية” مُضافة إلى معناه “الأصلي”؛ وهي الإضافة التي تأتي عبر التفاعل بين المصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ”، وبين المصطلحات الأُخرى الواردة معه في السياق القرءاني. بل لنا أن نُلاحظ كيف يكتسب مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ” أهمية غير عادية، بوصفه “علامة” لمفهوم ديني خاص جدًا، يرتبط بمفهوم “الوحي الإلهي”، أو بالأصح بمفهومات لها صلة مباشرة بالوحي.

ولعل ذلك ما يبدو بوضوح عبر ارتباط مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ”، بتعابير “الإنزال” و”التنزيل” ومفهوماتها في السياق القرءاني العام.. كما في قوله سبحانه: “ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ” [البقرة: 176]؛ وكما في قوله تعالى: “إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا ٭ وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا” [النساء: 105-106].

يعني هذا في ما يعنيه، أن مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ”، الذي يحمل المعنى الأصلي له، أينما ورد بمجرد أن يدخل في السياق القرءاني، ويُعطَى له فيه مكانا مُحددا مُعيَّنا، يكتسب عددا وافرا من العناصر الدلالية الجديدة، التي تنبثق من هذا الوضع الخاص؛ وكذلك من علاقاته وتشابكاته مع المصطلحات القرءانية الأخرى. ولعل المثال الواضح، من بين الأمثلة المتعددة في آيات التنزيل الحكيم، هو الدلالة المُضافة إلى مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ” ومفهومه، عبر تفاعلاته مع مصطلح “ٱلۡحَقّ” ومفهومه القرءاني؛ وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: “كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ…” [البقرة: 213].

بيد أن الملاحظة التي نود أن نختم بها حديثنا هذا، عن دلالة مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ”، تتمحور حول الحال الذي يأتي فيه مصطلح “ٱلۡكِتَٰبُ” مُعرَّفًا، وفي الوقت نفسه مُضافا إليه صفة قرءانية مُحددة، مثل التعبير القرءاني “ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ”، في قوله سبحانه: “الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٭ إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ” [يوسف: 1-2].. إذ، هاهنا، يأتي تعريف التعبير القرءاني “ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ”، بأن آياته “قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock