يأتي الإعلان عن “وثيقة دستورية” جديدة في السودان، بعد إلغاء الوثيقة “السابقة”، بمثابة خطوة تفتح الباب أمام العديد من التساؤلات، بشأن ما يحدث في السودان عموما، وحول تصاعد وتيرة الصراع العسكري بين الجيش وقوات الدعم السريع، الذي دخل الشهر الماضي، في 15 أبريل 2024، عامه الثاني.. ويدخل هذه الأيام الشهر الرابع عشر من لحظة اندلاعه؛ مُخلِفًا -بعد هذه الأشهر- نحوا من 15 ألف قتيل وأكثر من 8 ملايين نازح ولاجئ، وفقا للأمم المتحدة.
جاء ذلك الإعلان عبر تصريحات مساعد القائد العام للجيش السوداني الفريق ياسر العطا، السبت 25 مايو الجاري، التي أكد فيها أن البرهان “سيُعين رئيس وزراء مستقلا، توطئة لتشكيل حكومة جديدة”.
وتابع العطا في تصريحاته: “روسيا طلبت نقطة تزود على البحر الأحمر مُقابل إمدادنا بالأسلحة”؛ مُشيرًا إلى أن البرهان “سيوقع على اتفاقيات مع روسيا قريبا”.
المُثير للانتباه، أن الوثيقة التي ألغيت، كان قد وقّع عليها تحت مُسمى “الإعلان الدستوري” من “المجلس العسكري” الذي حُلَّ، وقوى “إعلان الحرية والتغيير” الائتلاف الذي كان حاكما، في أغسطس 2019. ومن ثم، فمنذ إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حالة الطوارئ في السودان، في أكتوبر 2021، وما تلاه من حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وإعفاء الولاة، وتعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية الخاصة بإدارة المرحلة الانتقالية- منذ ذلك الحين، ومع تلك الإجراءات، كانت الوثيقة الدستورية في حكم المُلغاة.. واقعيًا.
وهنا، يُصبح التساؤل: لماذا الإعلان الآن، عن إلغاء الوثيقة الدستورية السابقة؛ وما معنى الإعلان الآن أيضا، عن أُخرى جديدة؟
الواضح أن مُضي الجيش السوداني، والحكومة التابعة له، في إلغاء الوثيقة الدستورية، لا يعني سوى محاولة التخلص من أي مظاهر “مدنية”، كانت قد تحققت بعد ثورة ديسمبر 2019، بصورة أساسية بل، والإعلان عن إسقاط أي التزامات تجاهها، بشكل علني، من جانب المؤسسة العسكرية السودانية.
أضف إلى ذلك، أن الإعلان عن وثيقة دستورية جديدة، في هذا التوقيت، ومع عدم قدرة الجيش على حسم الصراع العسكري مع قوات الدعم السريع، يُلمح إلى استبدال نظام الحكم السائد حاليا في البلاد، بآخر. بمعنى أن الجيش يسعى إلى إلغاء أي علاقة، قانونية أو تشريعية، مع الدعم السريع، على المستوى الرسمي. ومن ثم، تبدو الخطوة تفويضا للمؤسسة العسكرية في قيادة الدولة، وإدارة شئون البلاد، مع تعيين رئيس للوزراء.
وبالرغم، من أن خطوة كهذه، في إلغاء الوثيقة الدستورية، وتشكيل حكومة جديدة لها رئيس وزراء جديد، يُمكن أن تساعد في تهدئة غضب الشارع السوداني، الذي امتدت معاناته، من طول الصراع العسكري الناشب في البلاد.. إلا أن هذه الخطوة نفسها، يُمكن أن تؤدي إلى التقسيم الفعلي للسودان.
إذ إن إعلان تشكيل حكومة مقرها بورتسودان، على سواحل البحر الأحمر، من جانب الجيش السوداني، وبشكل أحادي؛ ستكون بمثابة “الضوء الأخضر” لقوات الدعم السريع، وقائدها محمد حمدان دقلو، في إعلان حكومة موازية في المناطق التي يُسيطر عليها الدعم السريع.
وتكون هذه، هي البداية الحقيقية على طريق التقسيم الثاني للسودان؛ حيث كان انفصال جنوب السودان عن الوطن الأم، هو الانفصال الأول.
المُثير للانتباه أيضا أن توقيت الإعلان عن الوثيقة الدستورية الجديدة في السودان- قد تزامن مع الإعلان عن تزويد روسيا الجيش السوداني بالأسلحة، في مُقابل “نقطة تزود” على سواحل البحر الأحمر. هذا التزامن، الذي عبرت عنه تصريحات الفريق ياسر العطا، يُثير التساؤل حول الدوافع الروسية في الدخول على خط الصراع السوداني، عبر تصدير الأسلحة للجيش.
ثم.. هل يتوقف الأمر بالنسبة إلى روسيا عند حدود “نقطة تزود”؟
المُلاحظ، بداية، أن القاعدة اللوجستية في بورتسودان، تُعد مرحلة أولية أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله تحقيق مجموعة من الأهداف في وقت واحد؛ أهمها: إن وجود منشأة عسكرية في بورتسودان، ولو كانت في البداية على صعيد لوجستي، فهي تؤشر إلى المحاولة الروسية في تأمين الارتكاز البحري لموسكو في السودان، ما يساهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر؛ وهو ما يعني فرض روسيا لنفسها بوصفها لاعبا متحكِّما في معادلات الطاقة الجديدة، التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.
إضافة إلى ما يُمكن أن يُتيحه المركز اللوجستي، من تعزيز الأسطول الروسي لموقعه البحري في المحيط الهندي؛ ما يوفر مرفقَّا آخر للمياه الدافئة، إلى جانب قاعدة طرطوس في سوريا، حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد والخدمات اللوجستية المختلفة.
أضف إلى ذلك، أن إشارة ياسر العطا إلى قُرب توقيع البرهان اتفاقيات مع روسيا، تؤكد على التعاون الأمني والعسكري بين الجانبين؛ وهو التعاون الذي يأتي ليُمثّل واحدا من أهم الأهداف الاستراتيجية الروسية من التقارب مع السودان؛ إذ إن روسيا تنظر من خلال علاقتها الحالية مع الخرطوم إلى ما وراء السودان من دول الساحل الأفريقي، في ظل صراع محتدم بينها وبين فرنسا على النفوذ في هذه الدول.
وهنا تبدو المحاولة الروسية في العودة إلى الخريطة الجيوسياسية في أفريقيا والطرق البحرية، وذلك من خلال استخدام السودان نقطة انطلاق إلى دول منطقة الساحل، خاصة في النيجر ومالي التي تُمثل آخر النماذج التي شهدت تناميا للدور الروسي في هذه المنطقة.
بل قد تزداد جهود روسيا مستقبلا ليس فقط في الساحل الأفريقي؛ ولكن في منطقة وسط أفريقيا، حيث يبرز نشاطها في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ بصورة باتت تُشكل مثلث النفوذ الروسي في المنطقة، الممتدة بين السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا؛ فضلا عن وجودها في النيجر ومالي.
بوابة جيواستراتيجية
في هذا السياق، يمكن القول بأن اهتمام موسكو بالتقارب مع السودان، يُفصح عن مشروع روسي طويل الأمد، يتخذ من السودان “بوابة جيواستراتيجية” إلى العمق الأفريقي، حيث وسط أفريقيا ومنطقة الساحل؛ خاصة أن روسيا تنتهز فرص سياسات “فك الارتباط” الأمريكي مع المنطقة. فبعد نجاحها في دخول مياه المتوسط عبر سوريا، وإنشائها قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس، تحاول أيضا مد نفوذها إلى مياه البحر الأحمر، عبر بوابة السودان؛ بما يُمثله من ثقل استراتيجي، عاد إليه زخم التنافس الدولي في السنوات الأخيرة.