رؤى

دوافع التقارب الروسي.. مع مجلس السيادة السوداني

في الدورة “27” للمنتدى الاقتصادي الدولي، التي عُقدت في مدينة بطرسبورغ الروسية، في الفترة “5-8” يونيو الجاري، شارك وفد سوداني رفيع المستوى بقيادة مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، في أعمال المنتدى. وإضافة إلى كل من وزير الخارجية حسين عوض، ووزير المالية جبريل إبراهيم، فقد حرص المسئول السوداني على عقد لقاء مُنفصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

هذا، وإن كان يُعبر عما تشهده العلاقات الروسية مع مجلس السيادة السوداني، الذي يُمثل واقعيًا الدولة السودانية والجيش السوداني، من تقارب قائم على التنسيق والتعاون المشترك، خلال الآونة الأخيرة؛ فإنه، في الوقت نفسه، يؤكد على المُستهدفات الرئيسة للتحركات الروسية نحو السودان، تلك التي تبلورت في مختلف مضامين اللقاءات والزيارات التي جمعت المسئولين الرسميين من الطرفين.

المُثير للانتباه، أيضًا، أن التوجه الروسي نحو فتح خطوط اتصال مع مجلس السيادة السوداني، إنما يأتي استنادا إلى عددٍ من الدوافع.

فمن جانب، الاستهداف الروسي في دحض مسألة تقديم الدعم والمُساندة لقوات الدعم السريع، خاصة في بداية الصراع الحالي، الذي اندلع منذ 15 أبريل 2023؛ وذلك وفقا لما ذهبت إليه بعض التقارير “الغربية”، من أن روسيا عملت على توظيف مجموعة “فاغنر” لتحقيق مساعيها في السودان، عبر تقديم التدريب العسكري لقوات الدعم السريع.

ومن ثم، يأتي التقارب مع مجلس السيادة السوداني، ومع قيادات الجيش السوداني، كنوع من نفي هذا الادعاء الغربي؛ والتأكيد على أن المصالح الروسية تتحقق عبر الجيش السوداني، وليس أي طرف آخر مثل الدعم السريع وقياداته.

من جانب آخر، التنفيذ العملياتي لما أشارت إليه بعض التقارير، التي نُشرت في 4 يونيو الجاري، في وسائل إعلام روسية، بالتوصل إلى اتفاق بين روسيا والسودان يمتد إلى 25 عاما؛ حيث تُمنح روسيا بمقتضاه مركز دعم فني ولوجستي عسكري، في بورتسودان على سواحل البجر الأحمر. وكما هو منشور، فإن مسودة الاتفاق تنص على ألا يتعدى عدد السفن الموجودة بنقطة الدعم الفني عن “4” قطع بحرية في وقت واحد، وألا يتعدى الوجود الروسي “300” فرد يشغلون وظائف ثابتة.

والمُلاحظ، أن القاعدة اللوجستية في بورتسودان، تُعد مرحلة أولية أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله تحقيق مجموعة من الأهداف في وقت واحد؛ أهمها: إن وجود منشأة عسكرية في بورتسودان، ولو كانت في البداية على صعيد لوجستي، فهي تؤشر إلى المحاولة الروسية في تأمين الارتكاز البحري لموسكو في السودان، ما يسهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر؛ وهو ما يعني فرض روسيا لنفسها بوصفها لاعبا متحكِّما في معادلات الطاقة الجديدة، التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.

من جانب أخير، التوجه نحو هدف رئيس تسعى إليه روسيا منذ زمن، تعود جذوره إلى توقيع الطرفين اتفاقية، في عام 2017، أيام حكم الرئيس السابق عمر البشير؛ وهي الاتفاقية التي تسمح للبحرية الروسية بإقامة قاعدة عسكرية في مدينة بورتسودان، والاحتفاظ بها لمدة “25” عامًا، مع تمديد زمني تلقائي لمدة “10” سنوات، في حال عدم وجود اعتراض من أي من الطرفين.

وبموجب هذه الاتفاقية، التي تسعى روسيا إلى تفعيلها، بعد أن جُمّدت في أبريل 2019، بعد سقوط البشير، يُمكن لروسيا استضافة السفن التي تعمل بالطاقة النووية؛ الأمر الذي يُمكن أن يسمح لها بالتنافس مع القوى البحرية الأخرى، سواء الإقليمية أو الدولية المتواجدة بالفعل عند مداخل البحر الأحمر الجنوبية. هذا، فضلا عن التحكم في صادرات النفط الواردة من جنوب السودان بالكامل؛ إذ، يعتمد جنوب السودان على خطوط الأنابيب والمصافي السودانية، وميناء بورتسودان على البحر الأحمر، في تصدير “150” ألف برميل من النفط يوميًا.

ليست تلك الدوافع فقط، هي ما تستند إليه روسيا في التقارب مع مجلس السيادة السوداني، الحاكم فعليا حاليا في السودان؛ ولكن هناك أيضا مُحفزات أخرى.

فمن جهة، تسعى روسيا إلى الاستفادة من الثروات المعدنية لدى السودان، ولاسيما في ضوء أن السودان يُعتبر “ثالث” أكبر منتج للذهب قاريًا، و”عاشر” أكبر منتج عالميًا؛ حيث يُساهم بنحو “90” طنًا سنويًا. أضف إلى ذلك، الاستفادة مما يمتلكه السودان من الاحتياطيات المعدنية الأخرى، مثل: الكروميت، الفوسفات، الزنك، الرصاص، الكوبالت.. وغيرها من المعادن؛ التي تُساهم في تخفيف ضغوط حدة العقوبات الغربية المفروضة عليها.

من جهة أخرى، السعي إلى الاستفادة بما يتمتع به السودان من أهمية استراتيجية، تنبع من تموضعه كجزء من منطقتين هامتين، هما البحر الأحمر والقرن الأفريقي؛ هذا، فضلا عما يتسم به السودان من كونه رابط لعدد من المناطق الاستراتيجية، ما بين باب المندب جنوب البحر الأحمر، وقناة السويس في شماله؛ وما بين شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وبين منطقة الساحل الأفريقي، بما تتسم به هذه الأخيرة من انحسار النفوذ الغربي، والفرنسي تحديدا فيها.

في هذا السياق، يمكن القول بأن اهتمام موسكو بالتقارب مع السودان، يُفصح عن مشروع روسي طويل الأمد، يتخذ من السودان “بوابة جيواستراتيجية” إلى العمق الأفريقي، حيث وسط أفريقيا ومنطقة الساحل؛ خاصة أن روسيا تنتهز فرص سياسات “فك الارتباط” الأمريكي مع المنطقة. فبعد نجاحها في دخول مياه المتوسط عبر سوريا، وإنشائها قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس، تحاول أيضًا مد نفوذها إلى مياه البحر الأحمر، عبر بوابة السودان؛ بما يُمثله من ثقل استراتيجي، عاد إليه زخم التنافس الدولي في السنوات الأخيرة.

إضافة إلى ما يُمكن أن يُتيحه المركز اللوجستي، في بورتسودان، من تعزيز الأسطول الروسي لموقعه البحري في المحيط الهندي؛ ما يوفر مرفقَّاً آخر للمياه الدافئة، إلى جانب قاعدة طرطوس في سوريا، حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد والخدمات اللوجستية المختلفة.

وهنا، تبدو المحاولة الروسية في العودة إلى الخريطة الجيوسياسية في أفريقيا والطرق البحرية، وذلك من خلال استخدام السودان نقطة انطلاق إلى دول منطقة الساحل، خاصة في النيجر ومالي التي تُمثل آخر النماذج التي شهدت تناميًا للدور الروسي في هذه المنطقة.

بل، قد تزداد جهود روسيا مستقبلا، ليس فقط في الساحل الأفريقي، ولكن في منطقة وسط أفريقيا، حيث يبرز نشاطها في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ بصورة باتت تُشكل مثلث النفوذ الروسي في المنطقة، الممتدة بين السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا؛ فضلا عن وجودها في النيجر ومالي.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock