رحل نبيل الحلفاوي أمس تاركا إرثا فنيا فريدا، سيكتب له البقاء في ذاكرة الإبداع العربي.. حضوره الفني اعتمد على قدراته الفذة في استبطان الشخصية التي يؤديها، على نحو بالغ العمق.. تلك القراءة المدققة للتفاصيل التي أجادها الفنان، جعلته على ذروة إبداعية خاصة، تصل بالمعنى للمتلقي بكل وسيلة قبل الإفصاح بالحوار (إبداع المؤلف) الذي يضع اللمسة النهائية على بصمة الحلفاوي الفريدة على شخصياته.
إن المتأمل لمسيرة نبيل الحلفاوي الفنية، لابد أن يتبادر إلى ذهنه عديد من التساؤلات، عن أمور لا تخضع لمنطق واضح، فكيف لموهبة بحجم موهبة الحلفاوي لا نجد لها أدوار بطولة مطلقة؟ لماذا نجد محدودية -بل ندرة- في الأعمال السينمائية له ولا يكاد كثيرون يذكرون له دورا سينمائيا واحدا؟ لماذا لم تتنوع أدوار الحلفاوي ذلك التنوع الذي يسمح له بتفجير طاقاته الإبداعية ومواهبه التمثيلية، بل ظلت قاصرة على أدوار تدور تقريبا في فلك واحد؟ لماذا تقدَّم أبناء جيله مثل: يحيى الفخراني ونور الشريف ومحمود ياسين وأحمد زكي، بينما “رَاوَح” هو في مكانه لعقود؟
إن محاولة الإجابة عن تلك الاسئلة يستلزم بحثا يتناول جوانب عدة تتعلق بشخصية الفنان والظروف الاجتماعية والسياسية التي شكّلت تجربته الفنية وصاغتها على هذا النحو.. فالحلفاوي ابن التجربة الناصرية التي رفعت سقف الطموح على عدة أصعدة؛ لكن عوامل الهدم كانت أقوى منها.. فكان لذلك أثر بالغ على أبناء هذا الجيل من المثقفين الذين عانوا أشد المعاناة في محاولة التأقلم مع الواقع الجديد.
ويشكل الاعتداد الشديد بالنفس ركيزة أساسية في شخصية الحلفاوي ابن حي السيدة زينب، والذي تعود أصوله العائلية إلى مدينة فارسكور العريقة بدمياط أقصى شمال مصر. ربما أورث هذا الاعتداد بالنفس نبيلا؛ شيئا من التحفظ الذي منعه من تقديم أية تنازلات للحصول على مساحة أوسع للعمل، ومن ثم النجاح والانتشار، وربما يفسر هذا أيضا نوعية الأدوار التي حرص الحلفاوي على أدائها، ورفضه لأخرى رآها لا تتناسب وذلك التقدير للذات والموهبة اللذان يكنهما لنفسه.
سنجد أن شخصية الرجل الصعيدي حاد الطباع، المتمسك بمبادئه وعاداته وتقاليده التي تدفعه دائما للصدام- قد استهوت الحلفاوي مبكرا؛ لنراه في دور فكري طالب القانون ثم وكيل النيابة، في مسلسل بين السرايات إنتاج عام 1983، وينقل إلينا الحلفاوي عبر مشاهده في المسلسل حالة القلق والصراع النفسي التي يعيشها فكري الصعيدي المطلوب للثأر، والذي يختار دراسة القانون إيمانا منه بأن العدل يتمثل في الامتثال للأحكام، وعدم الانقياد للعادات التي توشك أن تدمر مجتمعات بأسرها.. لكن فكري يدفع حياته ثمنا لإيمانه بقيمه ومبادئه، وعدم هروبه من المواجهة.
بعد ثلاث سنوات يقدم لنا الحلفاوي نموذجا آخر للصعيدي متمثلا في شخصية معلّا قانون في مسلسل “غوايش” وهو دور وصل فيه الفنان إلى حالة إبداعية فريدة، جعلت كثير من النقاد يذهبون إلى أن الحلفاوي أغلق دور الصعيدي تماما أمام أي محاولات للتفوق على أدائه في غوايش.
هذا الأداء المذهل أشاد به المبدع يوسف إدريس والكاتب الكبير صالح مرسي والروائي القدير الطيب صالح.. وغيرهم ممن رأوا أن إبداع الحلفاوي في الأداء أبرز جوانب الخير المبطن في شخصية معلّا، وأنه ربما يكون ضحية لظروف النشأة التي جعلت منه قاتلا في سن مبكرة-عن طريق الخطأ- عندما قتل والد مجاور، ثم وضعه الاجتماعي بوصفه الابن البكر للعمدة، وما أوجب عليه من تبعات جعلت منه إنسانا ليس من حقه أن يضعف أو يتسامح؛ لتكتسي شخصية معلّا برداء من القسوة التي جعلته يحتقر اللين الذي يجعل من صاحبه عُرضة للعشق وما يجلبه على الإنسان من ذل وهوان، خاصة إذا عشق امرأة ليست “من توبه” كما في حالة أخيه حسنين، كما أنه يزدري التعليم الذي يحول طلابه إلى “أفندية” لا يصلحون للعيش في الصعيد. ثم إن معلّا يجد نفسه متورطا في جريمة قتل أخرى.. بعد أن تكلّم “ولد شوادفي” عن أخته حُسنة، مُعرضا بقبحها، ما أوقد النار في قلب الأم، وجعلها تصدر حكمها النهائي عليه، بـ “أن يكون غسله موته وليس فرحه”.
لا يبدي معلّا ندما ظاهرا على إقدامه على هذه الجريمة، لكن الندم الدفين يصير صاحبه طوال الوقت.. إنه يسلمه إلى حال من الاحتراق تستحيل معه الحياة، حتى أن المؤلف اختار للشخصية نهاية بالغة القسوة، وهي الموت حرقا.
في عام 1997، يعود الحلفاوي لتقديم دور الصعيدي في مسلسل “زيزينيا” فنراه رفاعي العامل البسيط في وكالة الحاج عامر عبد الظاهر، وكيف يقاوم حبه لبياضة؟ وكيف يثور من أجل كرامته على خميس ابن صاحب الوكالة الذي سيحرمه من حبه الوحيد بالزواج من الفتاة غصبا؟ وينتقل بنا الحلفاوي عبر الشخصية بين أطوارها المتعددة بسلاسة وهدوء ووعي كامل بالتفاصيل، ورغم التحول الكبير الذي طرأ على ظروف الشخصية من عامل أجير لصاحب وكالة من أكبر الوكالات؛ إلا أن نبيل احتفظ بسمت العامل البسيط المعتد بنفسه، وأضاف إليه سمات من أنعم الله عليهم باليسر بعد العسر؛ ليصنع لنا الحلفاوي شخصية من لحم ودم من الصعب أن تمحى من ذاكرة الدراما المصرية.
بعد مرور سبعة عشر عاما يقدم لنا الفنان شخصية صعيدية أخرى هي شخصية علّام حمد الباشا أخو الباسل (الشخصية الرئيسية) في مسلسل دهشة.. وشخصية علّام شخصية مركبة تعاني من مطاردة الماضي المتجسد في صورة ابن غير شرعي، وتختلط مشاعر الأب تجاه هذا الابن بين الرفض والقبول.. ولا شك أن الحلفاوي أجاد رسم الشخصية باقتدار بخبرة السنين ونضج الموهبة.
لم يكن الحلفاوي من أهل الجنوب، لكن أهل الجنوب أنفسهم يجمعون على أنه أفضل من قدّم شخصية الصعيدي متفوقا على أساتذة كبار.. ويبدو أن سمات شخصية الحلفاوي التي طبعها انكسار حلم يوليو، قد جعلته يجد في هذه الأدوار، المتنفس الوحيد لتخفيف وطأة الهزيمة التي كانت إيذانا بانتهاء أهم مشروع عربي للوحدة والاستقلال في التاريخ الحديث.. اعتصام الفنان بالقيمة ورفض الابتذال وتقديم التنازلات، ربما لم يُمكّنه من تحقيق ما كان يطمح إليه.. لكنه رسّخ لجماليات فرضت نفسها بقوة من خلال المتاح على ندرته.. رحم الله نبيل الحلفاوي أحد أجمل مبدعينا الكبار.