رؤى

العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية.. بين تغليب اللا منتمين وتغييب المعنى(3- 4)

بعد حوار مطوَّل مع الذات.. رأيت أن أكتب هذه الورقة؛ لكي أعرض من خلالها لواحدة من أسوأ أزمات العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية. وما أكثر تلك الأزمات! وما أشدها تعقيدا! بعض منها بنيوي عميق، يعود ربما إلى قرنين من الزمان. وبعضها الآخر إجرائيٌ معقد يزعج المشتغلين بتلك العلوم -تقريبا- كل يوم. وبعض ثالث -منها- سلوكي غريب، يلاحظه الواحد منا حتى في نفسه.

هذه الصور الخمس مجتمعة؛ تعيدنا إلى مشكلة الانفصال بين الدال والمدلول. فعندما تختلف الصفة عن الموصوف، والاسم عن الفعل، والدال عن المدلول، واللفظ عن المعنى، وكليات العلوم الاجتماعية عن رسالة العلوم الاجتماعية إلا ويضطرب وجود تلك الكليات؛ بل ويصبح بعضها والعدم سواء. فلا معنى للشيء إذا فقد جوهره وهويته ورسالته. وهذا ما حدث بأسف وأسى كبيرين في حقل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية العربية. فبدلا من أن تشرح مؤسساتها المعنى وتوضحه وتنقده وتصححه.. راح بعضها يهذي وينتج، بل ويعيد إنتاج اللا معنى. ولا بد من التماس بعض العذر لتلك المؤسسات؛ لأنها في نهاية الأمر، ليست إلا جزءا صغيرا من مجتمع أكبر؛ ينتج بدوره كل يوم كثيرا من اللا معنى. فلدينا مجتمعات عربية ينادي الناس فيها “السبّاك” مثلا بالدكتور، ويسمون ميكانيكي السيارات بـ “الباشمهندس” والضابط بـ “الباشا” ويُدعى بعض المشاغبين نُشَطَاء، ومثيري الفتن مؤثرين، وناشري التفاهة صُنَّاع المحتوى، ويُجَامَل العاطل فَيُسَمَّى “self-employed” والحبل هكذا على الجرار، في فصل الدال عن المدلول وقتل المعنى، لِيُسَمَّى الانقلاب ثورة، والقهر حرية، والديكتاتورية مشاركة، والسرقة إعادة هيكلة، والاحتكار خصخصة، والتغريب حداثة.

وبنفس هذا التناقض بين الدال والمدلول في المجتمع الكبير، يتسابق مجتمع الإنسانيات والعلوم الاجتماعية العربية، في تعميق التناقض بين دالاته ومدلولاته؛ ليغرق الساحة باللا معنى بطرق وأشكال مختلفة، من بينها بعض الدرجات العلمية، التي تكشف شخصيات من يحملها عن خلوها من المعنى. وأطروحات عديدة تسمى مجازا “علمية” لكن عناوينها وخططها وبنيتها ومضمونها ومنهاجيتها واستخلاصاتها- تكشف عن غرقها في اللا المعنى. ومشروعات تخرج عبثية، يوضع عليها اسم الطلاب، لكن جهات مشبوهة -تقبع تحت بئر السلم- هي عادةً ما تنجزها، ما يكرِّس في ذهن الطلاب صورةً معيبة عن العلم، وأنه بأكمله نشاط بلا معنى، وأمِّيَّة منهجية مطبقة، تؤكد الغياب التام للمعنى، وخريجون لو سألتهم في أبسط أساسيات التخصص الذي حصلوا على درجاتهم العلمية، فيه لن يعطونك إجابة لها معنى. وكلمات كبيرة تتردد عن الدراسات البينية والعرضية والطولية والعابرة للاختصاصات وحديث عن الـ

interdisciplinarity, multidisciplinarity and transdisciplinarity  وغير ذلك من الكلمات الفخيمة التي لا تزيد عن تريندات، أو أعمال ركيكة تنقل حرفيا عن بعضها copy paste، بجانب سرقات علمية وعبوديات أكاديمية يستغل القوي فيها الضعيف، وترجمات حرفية عن صفحات أجنبية لموضوعات لا علاقة لنا بها، لا نحن نشبهها ولا هي تشبهنا، ناهيك عن لَيِّ عنق نظريات مستعارة، تُنْزَلُ على واقع ليس لها وليست منه؛ لتخرج عنها في النهاية توصيات بلا معنى.

قولوا لي مثلا ما قيمة نظرية العقد الاجتماعي التي تفترض أن الدولة تشكلت بتوافق إرادي حر بين الأفراد، بينما تكونت الدول العربية؛ إما نتيجة القهر الاستعماري أو بالاستيلاء كما وصفه الماوردي في الأحكام السلطانية. قد تكون نظرية العقد الاجتماعي قيمة في سياقها الأوروبي، لكنها بلا معنى في السياق العربي. أو حدثوني عن نظريات ما بعد الحداثة التي تقوم على الشك في الحقائق الكبرى والهويات الثابتة، بينما لا تزال المجتمعات العربية متمسكة بالهويات المرجعية البدائية كالقبيلة والطائفة أو بالمرجعيات الإطارية الكبيرة كالأمة.

قد تكون نظريات قيمة في سياقها الأوروبي؛ لكنها بلا معنى في السياق العربي. أو أقنعوني بجدوى النظريات النسوية الراديكالية النافرة في السياقات الدينية والثقافية العربية. قد تكون لها قيمة عند من أبدعها؛ لكنها بلا معنى لمن اتبعها. أو قولوا لي ما المعنى الذي تقدمه نظرية الحراك الاجتماعي الغربية، التي تؤكد على أن الفرد فاعل مستقل، بينما المجتمعات العربية ما زالت تعتمد على القبيلة والأسرة والجماعة في صناعة الهوية واتخاذ القرار. قد تكون نظرية مفيدة في الأرض التي نبتت فيها لكنها بلا معنى في الأرض التي جُلبت إليها. أو قولوا لي ما المعنى الذي أفادتنا به نظرية السوق الحرة، التي تدعو إلى تقليص دور الدولة إلى حده الأدنى، بينما تعتمد المجتمعات العربية -حتى اليوم- على الدولة مصدرا للوظائف والخدمات، فضلا عن أن الدولة العربية -على عكس الدولة الغربية- ما زالت تعشق من يستجديها ويلهث وراءها، فكيف لها أن تقبل بتصغير دورها والحد من حجمها؟ قد تكون تلك النظرية مفيدة في سياقها الأوروبي، لكنها بلا معنى في السياق العربي. أو حدثوني عن نظرية الدولة القومية التي تجعل من الدولة عنوانا للحداثة وتقدِّمها على أنها الإطار الطبيعي للتنظيم السياسي، بينما ما يزال الدين والطائفة والمذهب في المجتمعات العربية يشكلون عناصر محورية في الحياة العامة والخاصة على السواء. قد تكون نظرية قيمة في سياقها الغربي؛ لكنها بلا معنى عميق في السياق العربي. أو كلموني عن النظرية الليبرالية التي تفترض الحياد الديني والأيديولوجي للدولة، وهو أمر لا ينهض عليه دليل في السياق العربي. أو عن النظرية السلوكية التي تركز على التصرفات القابلة للملاحظة وتتجاهل القيم والدوافع الدينية والروحية والصوفية؛ بل وأحيانا الخرافية المنتشرة في العالم العربي. أو كلموني عن نظريات المجتمع المدني التي تفترض وجود مساحة حرة تسمح لمن يرغب بتكوين جمعيات وسيطة بين الدولة والمجتمع، فيما نعرف كلنا أن تلك الجمعيات تنشأ في السياق العربي نشأة فوقية؛ لتظهر وتختفي بأمر الدولة. أو كلموني عن نظريات التحول الديمقراطي التي تفترض أن النمو الاقتصادي والتعليم يؤديان معا إلى الديمقراطية، وهو كلام ليس له معنى في السياق العربي، حيث ترسخ السلطوية برغم النمو الاقتصادي والتوسع في التعليم، بما في ذلك بكل أسف تعليم العلوم الاجتماعية.

هذه مجرد نماذج لإنتاج اللا معنى، أو للعدمية الأكاديمية إن شئتم، التي يجب ألا نكابر فننكرها، وإنما علينا أن نتواضع ونعترف بوجودها؛ حتى نتمكن من مواجهتها. أعلم أن كلماتي خشنة بعض الشيء. لكن الأفضل أن نقسو على أنفسنا قبل أن يقسو الآخرون علينا. وقد علمتني التجربة العملية -وما تزال- أن قسوة منتقدينا من شاغلي المواقع العامة في محلها في معظم الأحيان، كما أنها لا تنبع من فراغ. فهم يروننا ويرصدون حالنا ويتابعونا ويحاول بعضهم أن يفهمنا وأن يستفيد منا. لكننا لا نعطيهم ما يريدون، كما لا نعطي أنفسنا فرصة لكي نعدل مساراتنا. فقد انشغلت كليات عربية عديدة للعلوم الاجتماعية بمقاييس وممارسات لها العجب لا تنتج غير أصفار وتكثر من اللا معنى. أما صناع القرار فيريدون كلاما له معنى وخريجون لهم معنى وأوراق لها معنى. ومع اختفاء المعنى، بل وانتاج اللا معنى سلّم شاغلوا المواقع العامة من المهتمين عن كثب بالعلم أمرهم لله في تلك المعاهد والكليات. فإن أصلحت من حالها رحبوا بها واستفادوا مما تنتجه. وإن لم تصلح تركوها لمصيرها لعلها تستقيم أو تتحول، والعوض على الله، إلى نواد تنشغل بالبحث الترفيهي أو إلى مصانع تضخ شهادات لا يجد من يحملها لنفسه أي معنى عندما يخرج إلى الحياة العملية.

لكن لماذا اتسع انتاج اللا معنى؟ اتسع في تقديري لأسباب كثيرة أهمها تضخم ظاهرة اللا منتمين إلى العلوم الاجتماعية.

د.إبراهيم عرفات

أستاذ العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock