“النيل في خطر” كتاب للأستاذ كامل زهيري، صدر عام 1980، ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على صدور طبعته الأولى إلا أن أهميته ازدادت يوما بعد يوم؛ إذ يحمل الكتاب بين صفحاته العديد من الحقائق التي تفسر أسباب كل الأزمات والمشكلات التي ارتبطت بنيلنا العظيم منذ مطلع القرن العشرين، وحتى يومنا هذا.
صدر الكتاب في ظروف بالغة الصعوبة إذ كان الرئيس السادات قد استصدر ما عُرف بقانون “العيب” وقانون سلطة الصحافة، وتعديل قانون الأحزاب، والاستفتاء الذي أُجري لتأييد اتفاقيات السلام، بالتزامن مع منع أي معارض من تولي أي موقع في أي حزب أو نقابة.
وكان الإعلام الرسمي قد بدأ في الترويج أواخر عام 1979، لفكرة خبيثة تقول بأن حصة مصر من مياه النيل تفيض عن حاجاتها، وبدأ “السادات” يدعم هذه الفكرة في أحاديثه الكثيرة بالقول بأننا نقذف بـأكثر من 6 مليارات متر مكعب من المياه العذبة في البحر المتوسط.
وفي زيارته لحيفا في الرابع من سبتمبر1979، كرر السادات نفس التصريح قبل أن يعطي في 27من نوفمبر من نفس العام إشارة البدء في حفر ترعة السلام بين فارسكور والتينة عند الكيلو 25 طريق الإسماعيلية/ بورسعيد لتتجه نحو قناة السويس لتروي نصف مليون فدان. وقد طلب “السادات” في هذا اليوم من المختصين عمل دراسة علمية كاملة لتوصيل مياه النيل إلى القدس! لتكون في متناول المؤمنين المترددين على المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكى.. وقد نشر هذا الخبر في العدد46 من مجلة أكتوبر الصادرة بتاريخ 24 ديسمبر 1979.
أعادت هذه الاخبار الأستاذ كامل زهيري إلى مقال كان قد كتبه عام 1968 ردا على الملف المتحيز عن الصراع العربي الصهيوني الذي أصدرته مجلة الأزمنة الحديثة التي كان يصدرها “جان بول سارتر” في باريس. وقد اعتمد “زهيري” في الرد على عدة مصادر منها مذكرات “هرتزل” التي أورد فيها رؤيته حول توطين اليهود في سيناء ومدى إمكانية مد مياه النيل إليها، وما قام به “هرتزل” في هذا الشأن من محاولات على الأرض تضمنت رحلته إلى مصر عام 1903، في عهد وزارة بطرس غالي ايام المعتمد البريطاني اللورد كرومر.. وقد طرحت الفكرة مجددا عام 1974، من خلال مقال لرئيس تخطيط المياه في الكيان الصهيوني “إليشع كلي” نشر في الصحافة الإسرائيلية.
ورغم اتضاح نية “السادات” بشأن إيصال مياه النيل إلى القدس عبر النقب، إلا أن تكذيب الأمر صار أمرا اعتياديا من جانب المسئولين آنذاك ؛ حتى أن مصطفى خليل رئيس وزراء مصر وقتها نفى وجود الفكرة من الأساس. إلا أن الفضيحة صارت مكتملة الأركان عندما نشرت الصحف المصرية في 13 و18 أغسطس 1980 نصوص رسائل السادات إلى بيجن وفيها يقول نصا: “…ولعلك تذكر أيضا أنني عرضت أن أمدكم بمياه يمكن أن تصل إلى القدس مارة عبر النقب، حتى أسهل عليكم بناء أحياء جديدة للمستوطنين في أرضكم. ولكنك أسأت فهم الفكرة…”. وقد أعاد “السادات” طرح الفكرة في خطاب له إلى ملك المغرب.
خطر عظيم
ويصف “كامل زهيري” هذه الفكرة بأنها أعظم خطرا من المعاهدة ذاتها، لأن إعطاء الماء لإسرائيل يحول العلاقة التعاقدية إلى علاقة ماء وحياة تعطي إسرائيل حق ارتفاق على مياه النيل يدوم دوام جريان النيل.
في الفصل الأول من الكتاب الذي عنونه الكاتب بـ “أصول مشروع تحويل مياه النيل إلى سيناء يشير “زهيري” إلى خلو المراجع الإنجليزية من مشروع “هرتزل” الرامي إلى توطين اليهود في سيناء بعد إيصال مياه النيل لها، كما خلت المراجع العربية أيضا من أي ذكر للمشروع أو للزيارة التي قام بها هيرتزل لمصر في عام 1903، رغم اهتمام تلك المراجع بذكر حادثة “طابا” 1906 المتعلقة بالصراع الحدودي الذي أثاره مشروع سكة حديد الحجاز، ويعزو الكاتب ذلك الإهمال إلى السرية الشديدة التي اكتنفت المشروع لخطورته.
وإلى وثيقتين خطيرتين ينتقل بنا الكاتب “كامل زهيري” وقد تضمنت الوثيقة الأولى نص مشروع الامتياز الذي أعده “هرتزل” للعرض على الحكومة المصرية- بطرس غالي واللورد كرومر- بعد نجاح مساعيه الأولية لقبول المشروع بصورة مبدئية في لندن، تحديدا مع وزير المستعمرات “جوزيف تشمبرلين”.
أما الوثيقة الثانية فتضمنت نص تقرير البعثة الفنية التي أرسلتها الحكومة البريطانية خلال شهري فبراير ومارس1903، لزيارة سيناء بموجب الاتفاق الذي تم بين “هرتزل” و”تشمبرلين” و” كرومر” و”بطرس غالي”.
كان هناك تحرك آخر لا يقل خطورة من جانب “هرتزل” وهو سعيه إلى إقامة صلات وثيقة مع بيوت المال اليهودية في أوروبا – دي هيرش وروتشيلد- والتي سيستغلها فيما بعد للضغط على “كرومر” لقبول المشروع. وعدم استجابة المعتمد البريطاني لتلك الضغوط؛ لأسباب تتعلق بعلاقة غير مريحة بين الرجلين. ثم يكشف “زهيري” لنا عن دور “روتشيلد” في محاولات قديمة لإغراق مصر في مستنقع الديون، عندما عرض على “محمد علي” قرضا بقيمة 4 ملايين جنيه، لكن الباشا رفض العرض، ربما لعلمه بنوايا “روتشيلد” وأعوانه.
البحث عن عباءة هو عنوان الفصل الثاني الذي يكشف فيه الكاتب تفاصيل لقاء “هرتزل” بالزعيم مصطفى كامل في فيينا عام 1897، وهو لقاء عابر حدث خلال سعي الرجلين كلٌ إلى مبتغاه، وهو ما ذكره مصطفى كامل في رسائله إلى عبد الرحيم أحمد وكيل الإدارة العربية بالمعية السنية، وكان حلقة الوصل بين الزعيم والخديوي عباس حلمي الثاني، وقد ذكر “هرتزل” في مذكراته لقاءه كصحفي بموفد الشرق الذي يطلب المساعدة الصحفية للتعريف بقضية بلاده.
يواصل “كامل زهيري” في الفصل الثالث الحديث عن محاولات “هرتزل” إقناع “روتشيلد” بمشروعه، وبروز فكرة توطين اليهود في العراق، وأسباب رفض الفكرة، وطرح اسم “قبرص” كبديل.. ثم ما اكتنف البعثة الصهيونية إلى مصر عام 1903 من سرية مطلقة، وانتهى تقرير البعثة بعد زيارة سيناء إلى أنه “رغم صعوبات المناخ، فإنهم يؤكدون بثقة، أنه إذا ما توافر الماء، فإن أحوال التربة والصحة والجو، يُمكن في المنطقة الصحراوية أن تستوعب عددا كبيرا من السكّان”! وحددت المكان الأنسب لحدود المناطق المطلوبة كالتالي: “شواطئ البحر الأبيض شمالا، وحدود النفوذ العثماني شرقا، والحدود الجانبية مساقط وادي العريش ومرتفعات التيه، أي خط عرض 29 تقريباً، وتكون الحدود الغربية هي قناة السويس والخليج”، وهو ما يكشف عن فداحة أطماع الصهيونية في سيناء ومياه النيل”!
وثيقة اتهام
في الفصل الرابع “الامتياز” يتناول “زهيري” تفاصيل عمل البعثة الصهيونية، والنتائج التي حققتها بمساعدة بطرس غالي واللورد كرومر، والنص الكامل لمشروع التوطين اليهودي في سيناء، واقتراح “هرتزل” بأن يكون المشروع حق امتياز لمدة99 سنة، على مرحلتين.. ثم إشارة إلى تقرير البعثة الذي تضمن عدة مغالطات بشأن سكان سيناء وأعدادهم. ثم يتناول في الفصل التالي تفاصيل زيارة “هرتزل” للقاهرة، ولقائه ببطرس غالي واللورد كرومر، وقول “هرتزل” في معرض الحديث عن إيصال ماء النيل إلى سيناء : “نحن نطلب فقط من النيل مياه الشتاء الزائدة التي تجري عادة إلى البحر، ولا يستفاد منها”. ولا غرابة أن يكون مضمون هذه العبارة متطابقا تماما مع عبارة “السادات” عن الـ 6 مليارات متر مكعب من المياه العذبة التي تُقذف في البحر المتوسط!.
في الفصل الأخير “المشروع الصهيوني الجديد” يتناول “زهيري” ما جاء في الصحف العالمية عن المشروع المشبوه، ومنه ما أوردته “معاريف “بتاريخ 27 سبتمبر1978، عن تناول الصحف الأمريكية لمشروع بيع مصر مياه النيل لإسرائيل، وهو ما كتب عنه “إليشع كلي” في مجلة ” أوت” قبل أربع سنوات، وأن الحصة التي تطمح إسرائيل في الحصول عليها لا تتجاوز 1% من حصة مصر التي تقترب من 80 مليار متر مكعب سنويا(رقم غير صحيح) وأن إجمالي طول الترع والقنوات التي ستنشأ لهذا الغرض لن يتجاوز 250 كيلو متر. مع تأكيد على أن هذا المشروع هو أكثر الحلول نجاعة من حيث إمكانية التنفيذ في وقت معقول للتصدي لمشاكل قلة المياه في دويلة الكيان الصهيوني.
ويختم ” كامل زهيري” كتابه بالقول بأن هذا المشروع لا يقل خطورة عن مشروع قيام الدولة الصهيونية، بل هو في تقديره أشد خطرا.. لذلك فقد اعتبر “زهيري” كتابه “…وثيقة اتهام للأطماع الصهيونية.. وكلمة دفاع عن وطن عرف أهمية العمل والعرق. بل عرف أول عريضة تطالب بالعدل، وهي شكوى ” الفلاح الفصيح” منذ خمسة آلاف عام!
لا يجب علينا أن نقرأ ما يحدث الآن في منابع النيل بمعزل عما تضمنه كتاب “زهيري” من حقائق حول الأطماع الصهيونية في النيل والتي لم تهدأ منذ أوائل القرن الماضي.. كما يجب علينا وضع التصريحات التي سمعناها مؤخرا حول ضرورة الاستعانة بالكيان الصهيوني في حلحلة الأزمة مع أثيوبيا في سياقاتها الموضوعية بوصفها كاشفة عن توجه مازال حاضرا بقوة منذ اتفاقيات السلام في سبعينات القرن الماضي وإلى الآن.