هو واحد من صناع النهضة الموسيقية في مصر.. مع بليغ والموجي والطويل. وهو اسم كبير في تاريخ الموسيقى العربية، فهو ملحن سبق زمنه بكثير، وعمل في أكثر من مجال فني، وكانت موهبة التلحين أولى اهتماماته رغم تعدد مواهبه الفنية ما بين الغناء والتلحين والتمثيل والكتابة.
ذات يومٍ زاره المخرج “فطين عبد الوهاب” في منزله، حاملا شكوى بعض المطربين من أن منير يرفض التلحين لهم، وقال له ناصحا: “إن كنت غير مقتنع بهم؛ فعلى الأقل عليك أن تعمل لتوفر لنفسك دخلا تعيش منه”. سحبه “مراد” من يده إلى غرفة المكتب، وفتح له أحد الأدراج؛ كان به مبلغ من المال، وقال له: “هذه مصروفات السنة، أتعامل في حدودها هي فقط، وكأنني توقفت عن التلحين؛ حتى لا أضطر إلى تقديم ما لا أرضى عنه، أو ربما أموت، فمن يضمن لي أن أعيش عاما آخر؟”.
هذا هو منهج وسلوك “منير مراد” فلتة عصره وزمانه، الموهوب صاحب المقدرة الفائقة علي دمج الموسيقي في الحركة بطريقة فريدة لا تتكرر, كأنما سبق زمانه بقرن كامل، فلو كان حيا إلى يومنا هذا؛ لقدَّم فن “الكوميدي شو” وبرع فيه؛ ولو أنَّ الأقدار يسَّرت له سبيل السفر إلى “هوليود” لكان له شأن آخر.
في كتاب “المعاصرون من رواد الموسيقى العربية” لـ “عبد الحميد توفيق زكي” فصل كامل عن الأسر الموسيقية” التي توارث أفرادها المهن الموسيقية والغنائية، ومنها أسرة آل عقاد ورحمي وعكاشة ومراد ومنسي؛ وصولاً إلى أسرة “زكي مراد” تاجر الأقمشة السكندري الذي برع في تقديم الحفلات الغنائية، والمسرح الغنائي مع سلامة حجازي؛ ثم مع “سيد درويش” في أوبريت “العشرة الطيبة” ومع “منيرة المهدية” أيضا. وقد لقي نجاحا كبيرا لدى الجمهور، فتعدّدت أسطواناته. وكان “زكي مراد” يعيد غناء رصيد المدرسة الخديويّة من الأدوار والقصائد من ناحية، وينتج “طقاطيق” وألحانا خفيفة يغنّيها على المسرح من ناحية أخرى، وكانت له فرقة موسيقية تجوب أقاليم مصر, وقد لحَّن “زكي مراد” للعديد من المطربين منهم: “سيد شطا” و”فتحية أحمد” وفي نفس الوقت تفرّغ لتدريب “ليلى” و”منير” اللذين عرفا منذ الثلاثينات من المجد الفني، ما يفوق ما عرفه والدهما من مجد في سنوات طويلة.
أما الابنة “ليلى مراد” صاحبة الموهبة الكبيرة؛ فقد انطلقت بصوتها في فيلم الضحايا عام1930، لـ”بهيجة حافظ” أما النابغة “منير مراد” فقد ورث عن أبيه براعة التلحين، حتى أنه ليأتي من “أكروبات” الألحان ما يعجز كثير من المطربين عن مجاراته، كما كان في استطاعته أن يحاكي ألحان كبار الملحنين ببراعة، وقد أجاد ذلك في اسكتش غنائي راقص شهير، قلَّد فيه كبار المطربين والملحنين، هو اسكتش “حدش شاف”.. الذي جمع فيه إلى جانب التقليد جوانب فنية عديدة، زينها بخفة روحه، وحسه الفكاهي العالي.
لم يكن في نية “منير مراد” في بداية حياته، أن يحترف الفن؛ على الرغم من أنَّه كان شديد الولع بالموسيقى في صغره وكان كما أخبرت الفنانة “ليلى مراد” عنه، كثير الاختفاء في هذه السن، إلى أن اكتشفت أنه يختبئ في الدولاب الخاص بعود والده ليعزف عليه ويغنّى منفردا. لذلك اعتقد الجميع أنَّ حبه للفن، هو سر فشله المتكرر في الدراسة، لكنَّه فاجأهم بأنَّه بترك الدراسة، وهجر الكلية الفرنسية؛ من أجل احتراف تجارة البسطرمة وتوزيعها على البقالين! إلى أن تعرَّف على “أنور وجدى” من خلال شقيقته عندما زاره في موقع التصوير, وقام على سبيل المزاح بلعب دور عامل “الكلاكيت”.
فى إحدى المرات كانت هناك مبالغ مستحقة على “أنور وجدى” وفات موعد سدادها، فدخل عليه “مراد” غاضبا، فقال له وجدى: “مافيش فلوس.. تلحّن لشادية؟”، دُهَشَ “مراد” من العرض؛ فقال له “وجدى”: “لحن لها أغنية في الفيلم الذى أصوره معها وأنتجه واعتبر أجرك عن التلحين هو الدفعة المستحقة”. وافق “مراد” فلحَّن لها أغنية “واحد اتنين” ونجحت نجاحا ساحقا، فقد كان “منير مراد” محبا الموسيقى لكنّه كان مشغولا عنها بأمور أخرى، ربما لشعوره أنَّ والده “زكى مراد” وشقيقته “ليلى” قد سبقاه إلى عالم النجاح والشهرة؛ وأنَّه لن يحقق أكثر مما حققاه، بخلاف أنَّه مهووس بموسيقى “الجاز” أكثر من اهتمامه بالموسيقى الشرقية، وهذا نوع من الموسيقى لا سوق له في مصر.
بعد سنوات طويلة قال “منير” في حوار صحفي إنَّ نجاحه الموسيقى مع كل نجوم مصر كان نتيجة محبته لنوعين من الفن “الجاز” وفن تلاوة القرآن الكريم الذي أثَّر كثيرا في وجدانه، وأنَّه كان سعيد الحظ بمعرفة أسرار المقامات الموسيقية من تلاوات قرَّاء القرآن العظيم.. وأضاف أنَّ بداية سعادته الفنية بحق كانت تلحينه لشادية أغنية “واحد، اتنين” التي غنتها في فيلم “ليلة الحنة”، فكانت بداية نجوميته وتألقه.. لتتوالى بعدها أعماله المتميزة والخالدة.
وعندما سُئل “منير مراد” في حوار مع “سلوي حجازي” عن سر نجاحه قال “أنا معجون بالفن”، ولعل هذه الإجابة كانت الأنسب والأفضل لوصف هذا الفنان العبقري، فبالفعل كان “منير مراد” معجوناً بالفن، فهو ملحن وممثل وفنان استعراضي وكاتب سيناريو ومساعد مخرج. وقد قدَّم “مراد” خلال مشواره الفني حوالي (3000) لحنا إلا أنَّه لم ينل المكانة التي يستحقها سواء في حياته أو حتى بعد مماته.
كان “منير” ممثلا خفيف الظل، وإنسانا يمتلك قلبا من ذهب، ويساعد كل من حوله, وقد يعود ذلك إلى نشأته في منزل عائلة كان بمثابة صالون ثقافي وفني، فكثيرا ما كان يرى “منير” في المنزل كبار الملحنين مثل: “محمد عبد الوهاب” و”زكريا أحمد” و “رياض السنباطي” يلقنون شقيقته “ليلى” الألحان, ومن تكرار حضور نجوم الفن إلى المنزل، كان “منير مراد” قد استبطن سمات تلك الشخصيات الفنية، خصوصا “محمد عبد الوهاب” الذي وصفه “مراد” بالشخصية الثرية من حيث الشكل والمضمون، مع شدة الحرص التي تصل لدرجة الوسوسة، حتى أنه لا يتناول الطعام خارج منزله إلا في اضيق الحدود, كما كان شديد التأنق، لا يفارق المنديل يده إلا إلى جيب البدلة, فكان “عبد الوهاب” أول شخصية فنية من خارج العائلة؛ تؤثر في “منير”.
درس “منير” في المدرسة الفرنسية، فأتقن الفرنسية إلى جانب الإنجليزية، على الرغم من أنه لم يكن متفوقا في دراسته، عمل لبعض الوقت في مجال التجارة، ثم بدأ حياته الفنية كعامل كلاكيت مع المخرج “توجو مزراحي” كما ظهر ككومبارس في بعض الأفلام، بعدها عمل كمساعد مخرج مع العديد من المخرجين الكبار منهم “كمال سليم” و “حسن الصيفي” و “أحمد بدرخان” ووصل عدد الأفلام التي ساعد في إخراجها حوالي 250 فيلم، وقد ساعدته تجربة العمل مع مخرجين كبار من مدارس فنية مختلفة في بناء خبرته التي ازدادت نتيجة احتكاكه بالفنانين من ممثلين وموسيقيين ومطربين، بالإضافة لأصحاب المهن السينمائية الأخرى، كما عمل مع أنور وجدي في خمسة وعشرين فيلما مساعدا للإخراج.