في إحدى حفلات الأوسكار منذ عدة سنوات، تم عرض أهم المشاهد للممثلات المرشحات لنيل جائزة أحسن ممثلة.. كانت جميع المشاهد بلا استثناء والبطلات في حالة انفعال شديد، صراخ وبكاء ونشيج، ثورة وغضب وانهيار.. لا وجود لمشهد هادئ واحد.. وكأن الإبداع الفني والتميز والموهبة الحقيقية لا تظهر إلا مع الانفعال الزائد وتلك الحالات التي تتفجر فيها المشاعر وتسيل فيها الدموع أنهارا.. تهكم يومها الممثل المكلف بتسليم الجائزة؛ إذ تظاهر بالبكاء بصوت عال، وهو يمسح أنفه بشكل مقزز.. ثم تساءل في سخرية عن كميات “البصل” المستهلكة في تلك الأفلام؛ لاستدرار هذا الكم الهائل من الدموع.. لم يكن “أنتوني هوبكنز” و”جودي فوستر” قد صنعا تحفتهما الخالدة “صمت الحملان” بعد؛ حين عبّرت “كلاريس ستارلينغ” بالصمت والترقب والنظرات واختلاج الملامح عن جميع الانفعالات الإنسانية دون ضجيج.. وهكذا يفعل دائما “ماجد الكدواني” الذي يهمس لنا؛ فنلوذ بالصمت، ويومئ لنا فننعم النظر، وعندما يصمت.. يبدأ الصخب في عقولنا بتوالد التساؤلات.. يتم اليوم “الكدواني” عامه الرابع والخمسين، فمن الواجب علينا أن نهمس له بكل الحب “سنة حلوة يا جميل”.
البداية السينمائية مع “حلزونة” في عفاريت الأسفلت، حملت جزءا مهما من رسالة “ماجد” إلينا.. انتبهوا! فنحن في عالم لا يعرف الرحمة؛ حتى بأضعف الناس وأكثرهم استحقاقا للرثاء.. حتى تلك اليد التي تمتد بكسرة الخبز، وشربة الماء من الممكن جدا أن تكون شرا محضا يُخادع البسطاء.. “…الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ”. عليكم إذن أن تحذروا ولا تنخدعوا في أحد.. رسالة “حلزونة” التي أرسلها لنا من عالمه البالغ لقسوة دون أن ينطق بكلمة.
أما “عاطف” الطامع المرتاب في “جنة الشياطين” فقد ترك لنا حرية الاختيار بين جحيم العيش مع “سلوى” تلك الفتاة الأرستقراطية التي تحمل بذور رفض الطبقة التي أورثها إياها والدها (منير أو طبْل) الأرستقراطي الهارب من ضيق القصور إلى رحابة أكواخ البسطاء– وبين الفقر ومكابدة مصاعب الحياة دون أمل.
في تلك الفترة كان “الكدواني” قد جاوز الثلاثين دون أن تتاح له الفرصة التي ترضيه في السينما.. أما المسرح فقد أيقن مبكرا أنه ليس ميدانه الإبداعي.. من المؤكد أنه فطن إلى أن الأداء المسرحي البارع لعدد لا بأس به من ألمع نجوم الفن –حال بينهم بشكل أو بآخر والتألق في الأعمال السينمائية؛ فالأداء المسرحي الذي يعتمد على التفاعل المباشر مع الجمهور ويستلزم رفع الصوت ليصل إلى آخر من في قاعة العرض، ويغلب عليه الانفعالات الظاهرة والتأثر الخارجي؛ لم يجد “ماجد” نفسه في كل هذا.. وجد نفسه في العمل بالسينما، ولو تأخرت الفرصة، أو ضاعت، ولو اكتفى بالأدوار الصغيرة.. كل ذلك لا يهم أمام صدقه مع نفسه الذي هو محركه الأول ليس في مجال العمل فحسب، بل في كل تفاصيل حياته –فالكاميرا في العمل السينمائي؛ تبحث بعين رؤية المخرج عن قدرة التعبير بالملامح والإيماءة ونبرة الصوت وحركة الجسد التلقائية.. وإذا جاز التعبير فالأداء السينمائي أكثر اعتمادا على “المونولوج” أو الاستبطان بلغة علم النفس بعكس الأداء المسرحي الذي أساسه “الديالوج” وهو خارجي وتفاعلي بين عدة أطراف.. وقد يؤكد ذلك أداء ماجد بالغ الاتقان والروعة في أعمال لم ترق باقي عناصرها لهذه الدرجة من النجاح مثل فيلم “عزبة آدم”2009 و”الأصليين”2017، وفيلم “طلق صناعي” 2018، على سبيل المثال لا الحصر.. وعلى الأرجح يبدو أن انحياز الكدواني للسينما كان على أساس أنه أقرب طوال الوقت إلى هذا الحوار الداخلي المتأمل المستغرق في التفاصيل المؤتنس بترانيم الذات والتعلق بالمشيئة الربانية والمطمئن تماما إلى أنه يسير وفق خطة ناجحة لأداء دور رسالي بأداة الفن المستخدمة بتميز متصاعد يتفق وتنامي الموهبة المطرد بتوالي الخبرات وتعاظم المعرفة ومرور الزمن.
“هزلها جد” هي السينما.. صورة الحياة المختزلة في الشريط الساحر؛ لذلك لم يستنكف “الكدواني” من العمل في أفلام من نوعية “حرامية في كي جي تو” و”الرجل الأبيض المتوسط” و”عسكر في المعسكر” و”حرامية في تايلاند” قبل عدم التوفيق الصادم في البطولة المطلقة الأولى له في “جاي في السريع” وهو ما استدعى وقفة وإعادة نظر في المشوار الذي انفرطت منه عشر حبات كاملة؛ دون تحقيق الذات فنيا بأدوار مقنعة ليس من المهم أن تكون أدوار بطولة.
كان الفشل في تجربة “جاي في السريع” بداية حقيقية للنجاح، حسم “الكدواني” الأمر بتوقفه عن السعي وراء البطولة، ليس هذا فحسب؛ بل وصل الأمر إلى رفض بعض الأعمال التي لا تحمل قدرا معقولا من القيمة الفنية. أفسح “ماجد” المجال لنفسه ليلعب أدوارا أكثر رحابة من الناحية الإبداعية في بطولات مشتركة أو ثنائية.. دون الخوف من التراجع للصف الثاني أو الثالث في بعض الأعمال؛ اعتصاما بمبدئه الذي أعلنه بقوله “أقدِّم السينما بإحساسي لأستمتع بها ولأمتع جمهوري، وما عدا ذلك فلا يدخل في حساباتي الفنية، وكل إنسان له قناعاته، وأنا قناعاتي أن العمل الجيد الذي أقدمه بمتعة وصدق يصل إلى المتلقي بنفس الإحساس”.
من “خميس حامد” في “كباريه” إلى “العسلي” النبطشي في “الفرح” لن نرى مساحات واسعة تتيح له الكشف عن قدراته الإبداعية؛ إلا أننا سنكتشفه بصورة أخرى أكثر حدة ووضوحا بعيدا عن الكوميديا من خلال أداء شخصية المدمن الذي يعاني من المعاملة المهينة من أخيه الأكبر في “كباريه” ما يجعله يفكر في الانتقام.. انتقالا إلى أداء مختلف وحرفي للغاية لشخصية “العسلي” الذي يعمل “نبطشي” أفراح لكن عقدة تشوه وجهه بسبب والده تسيطر عليه طوال الوقت وتجعله في حالة تحفز دائمة لإيذاء الآخرين.. مع “العسلي” تحديدا سنكتشف قدرات خاصة شديدة التميز في التقمص والتشخيص ربما نصاب معها بحالة من الحنق على “الكدواني” الذي خبَّأ هذه الإمكانات كل هذا الوقت ولم يكشف عنها.. لكنه سيبتسم مجددا وربما باستهانة ليقول: “كله بأوانه”.
ورغم أنَّ المواصفات الجسمانية لا تؤهل “الكدواني” كثيرا لأداء دور ضابط الشرطة؛ إلا أنَّ ذلك لم يقف حائلا دون تقديمه الدور في أربعة أعمال هي: “عزبة آدم” ضابط شرطة فاسد يدير بعض الأعمال غير المشروعة من خلال خطرين، ويلفق القضايا ويتربح من كل وجه، ونفس الدور بأداء مغاير في “تراب الماس” لنرى العقيد “وليد سلطان” الذي يتاجر في المخدرات، ويستخدم بلطجي لتسيير أعماله غير المشروعة ولا يتورع عن ارتكاب جريمة قتل، وقبل ذلك قدم الكدواني دور المقدم “سراج” في الفيلم الكوميدي “لا تراجع لا استسلام” بأداء مناسب لطبيعة الشخصية. وفي “ستة سبعة ثمانية” يعيدنا “ماجد” للسؤال عن إبداعه الذي صار يتفجر على نحو لا يمكن توقعه بشكل يجعل من العسير على المتابع الواعي ملاحقته في تصرفات أدائه المتراوح بين العفوية والتعقيد بصورة تجعل الأمر يبدو متناغما حد الإبهار.
ومن الضابط “عصام” في “678” إلى المذيع “محسن السيسي” في “أسماء” يستمر “ماجد” في مسيرته التي بدأت تعرف طريقها نحو الجوائز مع أدوار تُعَرِّي سلبيات المجتمع وتفضح كثيرا من الزيف الذي يغرق حياتنا، ورغم حصول الفيلمين على عدد من الجوائز، وحصول “ماجد” على أكثر من جائزة.. ما يعني وصوله إلى مكانة لا يجب معها أن يتراجع إلى أدوار صغيرة إلا أنَّه يتمسك بمبدئه القائل بأنَّ ليس حجم الدور بل ما يحمله من قيمة فنية وما يتيح للممثل من سبيل للتميز والإبداع .. فيقدم أحد أدواره الهامة في “ساعة ونصف” مجسدا شخصية مساعد شرطة الترحيلات الطيب إلى حد السذاجة الذي يحاول إقناع المتهم الذي يُرَحِّله “أحمد الفيشاوي” بالزواج من أخته المسكينة التي فاتها قطار الزواج.
وفي “ديكور” 2014، يعود إلى التأمل بواقعية من خلال دور الزوج المحب “مصطفى” الذي يحاول الوقوف إلى جانب زوجته في محنة المرض النفسي، ثم “هاني عبد الحي” الأب صاحب صالة الجيم الذي يعيش الحياة بالطول والعرض ويقسو على ابنه؛ ولكنه يحبه بطريقة مختلفة تجعله يعيش منكسر القلب بعد قرار الابن بالرحيل في “شيخ جاكسون”2017 دور جديد بأداء لا يشبه أداءه في دور سابق؛ لنتأكد أنه لم يفلت لحظة الإبداع الحقيقية حين قبض عليها لتصير طيعة في يده يمددها بمهارة في أدواره المختلفة باقتدار بالغ يصل حد منافسة الذات لا الآخرين حتى ولو كان الدور عبارة عن حديث في محاضرة دون مبارحة المقعد كما في “هيبتا” الذي لاعبنا فيه “شكري مختار” لعبة الخلاص من أسر الفشل ومعاودة الدخول في صراع مع الحياة وعدم الرضوخ مع تكرر الإخفاقات اعتصاما بالحب والرغبة في إسعاد من نحب.. وكذلك في المشهد الوحيد له في مسلسل “تحت السيطرة” الذي احتل فيه الذاكرة بحضور طاغ، يجعل من المستحيل نسيانه، حتى لو سقط المسلسل بأبطاله وحلقاته الثلاثين من الذاكرة.. وفي رمضان الماضي يعود “ماجد” مجددا لدور المشهد الواحد في مسلسل “ولاد ناس” بأداء مذهل لم يبهر أبطال العمل فحسب بل أسلمهم لنوبات بكاء حقيقية.. وكان المشهد الأكثر انتشارا على مواقع التواصل لأيام.
في كل عمل يصل “الكدواني” إلى ذروة إبداعية تتجاوز حدود الدهشة إلى التساؤل عما بقي في جعبة الساحر الذي صار الأهم بين فناني عصره؛ برغم خطواته البطيئة نسبيا على طريق الفن؛ لدرجة اتهام البعض له بالتكاسل؛ لكن يبدو أنَّه لن يكف عن إبهارنا بطاقات فنية جديدة يكتشفها في نفسه تباعا؛ فيصوغها في أعمال بديعة لنشاركه الدهشة والحذر قدر المستطاع أو نحو ذلك بما لا يخل بحساباته الخاصة جدا التي يلخصها بقوله” سايبينها لله”.