كيف دفعت التحركات التي اتخذتها الصين وروسيا، الولايات المتحدة إلى تعزيز تحالفاتها بين المحيطين الهندي والهادئ وحلف شمال الأطلسي؟
ترجمة: كريم سعد
قد ينصب اهتمام العالم على التحدي الروسي لأوكرانيا، لكن إدارة “بايدن” تواجه شيئًا أكبر بكثير، فهي أمام تحدٍ مكثفٍ من روسيا والصين، وأيضًا إيران وكوريا الشمالية، للحفاظ على إرث النظام العالمي الذي ورثته الولايات المتحدة من الإمبراطورية البريطانية التي تعثرت في الأربعينيات. فبينما شدَّد “فلاديمير بوتين” قبضته على بيلاروسيا وصعَّد حرب الأعصاب ضد أوكرانيا– أشارت الصين من ناحية أخرى إلى دعمها لسياسة روسيا تجاه أوكرانيا، وأرسلت أعدادا قياسية من الطائرات المقاتلة عبر منطقة الدفاع التايوانية، كما أجرت تدريبات بحرية مشتركة مع روسيا بالقرب من اليابان، وعززت أيضًا وجودها البحري بين اليابان وتايوان، وفي حين حذر سفير الصين لدى الولايات المتحدة من خطر الحرب المتزايد على الجزيرة، إلا أن “جين كانرونج” الأكاديمي الصيني البارز المتصل عن كثب بالحزب الشيوعي الصيني؛ قد توقع أن الصين ستقوم بـ “اتحاد مسلح” مع تايوان بحلول عام 2027.
ويوضح هذا التصعيد في الأزمات العالمية – التمدد المفرط للقوة الأمريكية. ويتساءل البعض لماذا تنتهي كل مشكلة في العالم عند البريد الوارد للولايات المتحدة الأمريكية؟ ولماذا لا تمنح أمريكا العالم قسطا من الراحة وتوجه انتباهها إلى مشاكلها الداخلية العاجلة؟
وعلى الرغم من إنها قد تبدو فكرة جذابة، لكن آخر مرة جربناها لم تنته الأمور بشكل جيد. حيث في عشرينيات القرن الماضي، كان الأميركيون يأملون في أن يؤدي الدفاع عن المبادئ الديمقراطية والقانون الدولي والتعاون الاقتصادي مع الدول الأخرى؛ إلى منع نشوب حرب عالمية أخرى. ولكن لم يحدث ذلك، وبعد صدمة الحرب العالمية الثانية وعداء “ستالين” بعد الحرب، قرر صانعو السياسة الأمريكيون بناء نسخة أمريكية من النظام العالمي البريطاني القديم، وهو نظام اقتصادي عالمي مدعوم بالقوة العسكرية الأمريكية، حيث يُعد ذلك الطريقة الأكثر أمانًا والأرخص. للدفاع عن المصالح الأمريكية الأساسية.
وقد أثبت نظام ما بعد عام 1945، أنه مرن وفعال، حيث تجاهل التحدي السوفياتي، ووفر حالة اندماج لدول ما بعد الاستعمار في اقتصاد عالمي آخذٍ في الاتساع، ومنع حروب القوى العظمى الكبرى على مدى سبعة عقود، وجلب كل من ألمانيا واليابان إلى النظام باعتبارهما “أصحاب مصلحة مسئولون” عن نظام عالمي حاولوا تدميره ذات مرة. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، كان صانعو السياسة الأميركيون يأملون في توسيع هذا النظام بشكل أكبر، حيث انضمت روسيا والصين إلى ألمانيا واليابان وأصبحوا من الركائز الأساسية لنظام عالمي تقوده الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، سعى الأميركيون إلى رفعة النظام العالمي الذي لم يعد يواجه خصومًا شيوعيين معاديين بعد الآن، مع التركيز بشكل أكبر على حقوق الإنسان، ومساواة المرأة، وتعزيز الديمقراطية، والقضايا العابرة للحدود مثل تغير المناخ والهجرة.
إلا أن نسخة ما بعد عام 1990، قد ضربت بنسخة مشروع 1945، عرض الحائط. حيث رفضت روسيا والصين رفضًا قاطعًا قبول الرؤية الأمريكية لعالم ما بعد الحرب الباردة. ومع انقسام الرأي الأمريكي بشكل متزايد حول العناصر الأساسية لاستراتيجية بلاده للبناء النظام العالمي، والتي تقوم على التجارة الحرة وضمانات الأمن العالمي وقضايا مثل تغير المناخ وحقوق “مجتمع الميم”؛ أصبح من الصعب على الرؤساء الحصول على الدعم المحلي للسياسة الخارجية، حتى مع تحول الوضع العالمي إلى وضعٍ مُتشائم.
لكن هذا التشاؤم يمكن تخطيه بسهولة، فتاريخ العالم لم يبدأ من 1945، وهناك أسباب هيكلية هامة جعلت كل من بريطانيا والولايات المتحدة قادرتين على بناء نظام عالمي رأسمالي ليبرالي والدفاع عنه، وتعود تلك الأسباب في بعض النواحي إلى حروب القرن السابع عشر بين بريطانيا وفرنسا. حيث أثبت النموذج البريطاني –لمجتمع ليبرالي يؤيد الاهتمام بالشئون الداخلية ويركز على التجارة العالمية والقوة البحرية– أنه نموذج قوي ودائم. وحاول كل من لويس الرابع عشر ونابليون والقيصر فيلهلم الثاني وأدولف هتلر والإمبراطورية اليابانية والاتحاد السوفيتي كسر النظام العالمي الأنجلو أمريكي المتطور. لكنهم برغم صنعهم جميعًا التاريخ، وهزهم جميعًا لأساسات النظام، لكنهم مع ذلك لم يستطيعون تدميره.
ولا تزال العوامل التي تؤدي إلى النجاح طويل المدى لبناء النظام الأنجلو أمريكي موجودة حتى اليوم. حيث يُعزز المجتمع المفتوح ومناخ الأعمال التنافسي والتقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي الذين تقوم عليها سياسته الخارجية؛ فيبدو كقوة بحرية عالمية مُهتمة بمنع القوى البرية الكبرى من الهيمنة على أوروبا أو آسيا، ولازال الأميركيون هُم الحلفاء الطبيعيون للدول الأصغر، والتي تسعى لحماية نفسها من طموحات الهيمنة الصينية الروسية الطموحة. ولقد عززت السياسات الصينية المتعجرفة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من تحالفات الولايات المتحدة هناك، كما أن تهديدات روسيا لأوكرانيا تعمل على تنشيط منظمة حلف شمال الأطلسي وتذكير الأوروبيين بأن واشنطن تُعتبرحليفًا جيدًا لهم جميعًا.
وعلى الرُغم من أن “ونستون تشرشل” أعد نفسه للنضال ضد “هتلر” من خلال دراسة المسار العسكري والدبلوماسي لسلفه “جون تشرشل” في النصر على “لويس” الرابع عشر، كما كان “ثيودور روزفلت” طالبًا مُخلصا للتاريخ البريطاني والأمريكي، وكذلك كان ابن عمه “فرانكلين” إلا أن النظام التعليمي الأمريكي في العقود الأخيرة ينظر–للأسف– إلى أسس النجاح الأمريكي بارتياب وازدراء. برغم أنه على الأميركيين الذين يسعون لإعداد أنفسهم لنضالات عصرنا –إذا أحسنوا صنعًا– تجديد معرفتهم بتاريخ النظام العالمي الذي نحن مدعوون مرة أخرى للدفاع عنه.