ما معنى أن “كل مولود يولد على الفطرة”؟.
وهل معنى أن الفِطرة هي الخِلقة التي يُخلق عليها المولود في بطن أمه؟ ثم.. هل من الصحيح ما يقدمه البعض، ممن ذكرهم “ابن منظور” في مجلده “لسان العرب” من تفسير للفِطرة على أنها “الخِلقة التي يفطر عليها الإنسان في الرحم من سعادة أو شقاوة.. إما لجنة أو لنار”؟
لعل نقطة الانطلاق في معالجة مثل هذه التساؤلات، وغيرها هي العودة إلى كتاب الله الكريم، حتى يمكن مقاربة ما تشير إليه لفظة الفطرة من معنى وما تتضمنه من دلالة.. ومن ثم مقاربة اصطلاح دين الفطرة أو بالأحرى مصطلح الفطرة في حال ارتباطه بمصطلح الدين.. ولتكن البداية من مصطلح ارتبط بالدين مرة واحدة في كتاب الله الكريم؛ نعني مصطلح “واصبًا”.
اصطلاح.. “الدين واصبًا”
وردت لفظة “دين” ومشتقاتها في التنزيل الحكيم عدد من المرات قدره(101) مرة.. من بينها ستة مرات تخص كلمة “دين” بتشديد الدال وفتحها.. فيما وردت كلمة “دين” بتشديد الدال وكسرها في عدد من المواضع قدرها خمسة وتسعون موضعا.
وكنا في حديث سابق، قد حاولنا مقاربة مصطلح “دين الحق” الذي ورد في خمسة مواضع [التوبة: 29، التوبة: 33، النور: 25، الفتح: 28، الصف: 9].. وكنا قد وصلنا إلى أن أهم الدلالات التي يعبّر عنها اصطلاح “دين الحق” من حيث كونه مناط “الإظهار” على “الدين كله” أنه دين موضوعي خارج الوعي الإنساني، غير متوقفٍ عليه.. وأنه لابد أن يُعرف عن طريق الاستدلال (العلم) وأنه “ظاهر” على الدين كله، كأقوى أجزائه وأعلاها “أظهرها”.
وكمحاولة لاستكمال الحديث في اتجاه مقاربة مفهوم الدين كما تشير إليه وتدل عليه وتؤكده الآيات التي وردت فيها لفظة “دين” في النص القرآني في هذا الاتجاه سوف نحاول هنا في هذا الحديث أن نقترب من مصطلحين آخرين ارتبطا في النص القرآني بلفظة الدين هما: “الواصب” و”الفطرة”.
أولا: في ما يتعلق باصطلاح “الواصب” فقد ورد مرتبطا بلفظة “الدين” مرة واحدة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى “وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَمفهوم الدين” [النحل: 52].. وفي غير هذه الآية، لم ترد كلمة “واصب” في كتاب الله العزيز سوى مرة واحدة، وذلك في قوله سبحانه: “… وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ” [الصافات: 8 ـ 9].
https://www.youtube.com/watch?v=-UKLcG2Dpmg
و”واصب” حال عمل فيه الظرف؛ والوصوب ديمومة الشيء. ووصب يصب وصوبًا، وأوصب: دام. والوصب: شدة التعب (عذاب واصب أي دائم ثابت موجع).
وكما هو في اللسان العربي “واظب على الشيء وواصب عليه، إذا ثابر عليه. يقال: وصب الرجل على الأمر إذا واظب عليه، وأوصب القوم على الشيء إذا ثابروا عليه”. ومن ثم يكون الواصب هو الواجب الثابت، وتكون أهم الدلالات التي يشير إليها “وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا” هي له الدين واجبا ثابتا دائما ذا كلفة ومشقة ولذا سمي تكليفا.
ولكن أن يكون الدين ذا كلفة ومشقة، فهذا أمر مفهوم بل منطقي إذ تجب طاعة العابد (نقول العابد ولا نقول العبد) لكافة الأوامر الواردة في إطاره -في إطار الدين- سواء رضي بما يؤمر به أو لم يرض به، سَهُل عليه أو لم يَسْهُل.. بيد أن ما يدفع إلى التساؤل هنا هو “الوجوب الدائم” أي كيف يكون الدين واجبا ثابتا دائما (واصبا)؟
في اعتقادنا أن الدين لا يكون على هذه الصورة إلا إذا كان دين الوجود الموضوعي خارج الوعي الإنساني غير متوقفٍ عليه، وهذه أهم دلالات “دين الحق” بمعنى آخر إن “الدين الواصب” لا يكون “واصبا” إلا لأنه “دين الحق”.
اصطلاح.. دين الفطرة
في ما يخص مصطلح “الفطرة” فقد ورد مرتبطا بـ”الدين” مرة واحدة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [الروم: 30]. وفي غير هذه الآية، لم يرد اصطلاح “فطرة” قط، ولكن وردت لفظة “فطر” ومشتقاتها؛ لتصل مواضع ورودها جميعا -بما فيها الآية- إلى عشرين موضعا.
و “الفِطْرة” من “الفَطْر” وهي منه الحالة، كـ “الجِلْسة” و “الرِّكْبة”. و”الفَطْر” في اللسان العربي له وجهان: الأول الشق. فـ “فَطًر” الشيء يفطره فَطْرًا فانفطر وفطَّره شقه وتفطَّر الشيء تشقق وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى “وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا• لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا• تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا” [مريم: 88، 89، 90].. وكما في قوله سبحانه “إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ• وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ• وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت• وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ” [الانفطار: 1، 2، 3، 4].. وكما في قوله تعالى: “تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” [الشورى: 5].
أما الوجه الأخر، فهو البدا والإنشاء فـ: “فطر الشيء بدأه وفطر الشيء أنشأه”.. وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى: “… فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ” [الإسراء: 51].. وكما في قوله سبحانه: “وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” [يس: 22].. وكما في قوله تعالى: “يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ” [هود: 51].
فإذا دققنا النظر في كل من الوجهين، يمكن أن نلاحظ تكاملهما، في حال الإشارة إلى عمليتين متتاليتين تتمان في حيز واحد أي إذا تم “بدأ الشيء وإنشاؤه من خلال الشق”. ولعل هذه تكون أهم الدلالات التي تشير إليهما لفظة “الفَطْر” لاحظ أنه في اللسان العربي يُقال فطر ناب البعير، شق اللحم فطلع.. ويُقال: فطرت إصبع فلان ضربتها فانفطرت دما).. ولعل هذه الدلالة هي ما يتبدى بوضوح في قوله سبحانه وتعالى “فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” وهو “القول” الذي ورد في ستة مواضع من كتاب الله الحكيم [الأنعام: 14، يوسف: 101، إبراهيم: 10، فاطر: 1، الزمر: 46، الشورى: 11].
https://www.youtube.com/watch?v=3ouzT4Kf0vY
بل، لعل هذه الدلالة تتأكد إذا لاحظنا أن ثمة فروقات أساسية بين اثنين من الأفعال في “خلق الوجود” (والفعل هو “عمل مُحدد مُعرّف” كأن يقال “أكل” فعل ماض أي عمل معّرف بالأكل.. الأول هو فعل “خَلًق” كما في قوله سبحانه “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ” [الأنعام: 1].. والثاني، هو فعل “فَطَرَ”، كما في قوله تعالى: “إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ” [الأنعام: 79].
بناء على ذلك، يمكن فهم الفروقات الأساسية بين قوله سبحانه: “خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ” وبين قوله تعالى: “فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ”.. وبناء على ذلك أيضًا يمكن فهم “الفطرة”.. فإذا كانت “الفطرة” هي الحالة من “الفَطْر” وكان “الفَطْر” هو بدأ الشيء وإنشاؤه، فإن البنية الدلالية لـ”الفطرة” لابد وأن تتمحور حول الكيفية التي يكون عليها هذا الشيء (حالته). ومن ثم، تكون “الفطرة” ذات دلالة مؤداها: “القوانين الضابطة لحركة الشيء”.
كيف(؟)… يتبع.