في مقال نشره معهد “بروكينغز” للدراسات السياسية، في 5 نوفمبر، بمناسبة مرور عامين على اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا بجنيف، قدمت المستشارة الخاصة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة لدى ليبيا ستيفاني وليامز، اقتراحا مفاده: “أن يجري في أول انتخابات رئاسية، انتخاب مجلس رئاسي يتكون من ثلاثة أشخاص، يمثل كل عضو منهم واحدة من المناطق التاريخية الثلاث في ليبيا، وذلك لمواجهة مخاوف استئثار الرئيس بالسلطة”.
وأوضحت وليامز السبب وراء اقتراحها هذا، بالقول “إن بعض المرشحين الرئاسيين المحتملين، سيأخذون كل شيء إذا جرى انتخابهم، ليكون هناك شخص واحد، واستراتيجية لمرة واحدة، ما سيؤدي إلى العودة إلى أيام الديكتاتورية الفظيعة”؛ مشيرة إلى أن هذا، هو “الخوف العقلاني من أن بعض المرشحين، إذا جرى انتخابهم، فسوف يسعون وراء فائز واحد يأخذ كل شيء”.
إشكاليات مُتجذرة
اللافت، أن دعوة المسئولة الأممية السابقة، إلى “رئاسة ثلاثية” في ليبيا، إنما تتواكب مع الدعوة، التي شهدتها الساحة الليبية مؤخرا، بشأن “تفكيك مركزية الحكم” في العاصمة طرابلس، والمناداة بالعودة إلى دستور 1951، وإعادة طرح “الفيدرالية” كحل أمثل للأزمة الليبية، الممتدة منذ ما يزيد على عقد من الزمان.
واللافت أيضا أن هذه وتلك أي دعوة ويليامز والمناداة بعودة “الفيدرالية”، إنما تستند كل منهما على عدد من الإشكاليات المتجذرة في الواقع الليبي على امتداد سنوات.
منها فشل المفاوضات حول مواد الدستور؛ فبعد سنوات طويلة من التفاوض والمؤتمرات الدولية، صار من شبه المؤكد أن الأطراف الليبية المنخرطة في التفاوض بشأن “القاعدة الدستورية”، التي يمكن أن تجرى على أساسها الانتخابات، لن تتمكن من تجاوز عتبة النظام السياسي، ومن يحق له الترشح لمنصب الرئيس، في ظل خارطة الصراع والانقسام الحاصل على الساحة.
ولعل هذا ما دفع المسئولة الأممية السابقة لدى ليبيا، إلى أن تؤكد في مقالها المُشار إليه، على أنه “يمكن لمجلسي النواب والدولة إنهاء مشاورات المسار الدستوري، التي بدأت في القاهرة في مارس الماضي، لتعديل المواد المتنازع عليها في مسودة 2017″؛ مُشيرة إلى أن ذلك يمكن أن يتم من خلال “الضغط الدولي المنسق عليهما”.
ولم تكتف وليامز بذلك، بل حذرت من أنه “في حال استمر المجلسان في تعطيل التوصل إلى قاعدة دستورية، فإنه يجب عندها النظر في آلية بديلة لإنتاج الأساس الدستوري”، الذي سوف تقام بناء عليه الانتخابات.
من الإشكاليات أيضا، الانقسام السياسي بين حكومتين متوازيتين؛ رغم أن حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة قد انتهت ولايتها “محليا” بانتخاب حكومة باشأغا من قبل مجلس النواب، و”دوليًا” بانتهاء اتفاق جنيف، يوم 21 يونيو الماضي، وفق خريطة الطريق التي تولى بموجبها عبد الحميد الدبيبة حكومة الوحدة الوطنية.. إلا أن الأخير رفض التخلي عن السلطة لحكومة باشأغا، التي تحاول ممارسة مهامها من مدينة سرت، بعد تأكيد الدبيبة أنه لن يسلم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات.
في ظل هذا الانقسام السياسي، تجد ليبيا نفسها من جديد أمام مشهد مشابه لما كان عليه الحال عام 2015، أي حكومتان على الأرض لكل منهما جناح عسكري؛ وهو ما يدفع إلى التأزم والاحتقان، خاصة بعد فشل محادثات القاهرة في التوصل إلى قاعدة دستورية توافقية، تعبر بالبلاد إلى ضفة التحول الديمقراطي، عبر الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
من الإشكاليات كذلك فوضى السلاح وانتشار الميليشيات المسلحة؛ إذ في ظل هشاشة النظام الأمني، وانقسام أجهزة الدولة، تعد قضية الميليشيات المسلحة وفوضى السلاح في عموم ليبيا من المشكلات التي تعوق الحلول السلمية هناك. وتكفي ملاحظة فشل المفاوضات حول تسوية الأزمة، طوال سنوات طويلة مضت؛ إذ إن تجارب عشر سنوات من المفاوضات والاجتماعات والمؤتمرات، كافية لأن تُثبت أن لا أحد من الأطراف الليبية المتصارعة، يريد انتخابات تُفضي إلى حصول طرف على شرعية رئاسية أو برلمانية انتخابية. أيضا يبدو أن لا أحد يُريد نظاما سواء كان رئاسيا أو برلمانيا، بل ما يُريده كل طرف هو تشريعات تحفظ له بقاءه في الحكم، ونصيب من “كعكة” الموارد التي تتمتع بها ليبيا.
دوافع الثلاثية
يبدو أن عددا من الدوافع تقف وراء هذه الدعوات إلى اللامركزية في الحكم، أو تحديدا الرئاسة الثلاثية للحكم في ليبيا..
منها، التلويح باستخدام القوة بين شرق ليبيا وغربها؛ لقد انفتح المشهد الليبي مجددا “تلويحا وتصريحا”، على إعادة تهيئة المسرح للاقتتال المحتمل بين جبهتي شرق وغرب البلاد، بقصد “استعادة الدولة من المجهول”. ولعل ذلك قد تبدى بوضوح مؤخرًا، عبر إظهار كل طرف مدى قدرته على حسم المعركة.. سواء باستعراض ما يمتلكه “الجيش الوطني”، بقيادة المشير خليفة حفتر، من مقاتلات حربية، أو توقيع رئيس حكومة “الوحدة” المؤقتة، عبد الحميد الدبيبة، اتفاقيات عسكرية مع حلفائه الأتراك، لرفع كفاءة الطيران العسكري بغية التحضر لـ”المستقبل”.
وفي حين رأى البعض ما أقدم عليه الدبيبة، من توقيع اتفاقيات عسكرية مع الأتراك، تصعيدا خطيرا وخرقا لـ”اتفاق وقف إطلاق النار”؛ إلا أن البعض الآخر، رأى التلويح بالحرب في نشر الجيش الوطني، للمرة الأولى صورا لمقاتلات حربية رابضة في قاعدة “الجفرة” الجوية، في أعقاب زيارة حفتر للمنطقة، وتوعده بـ”أننا سخوض معركة فاصلة من أجل تحرير البلاد، إذا فشلت المساعي السلمية في ذلك”.
من الدوافع أيضا صعوبة إجراء الانتخابات مع وجود حكومتين؛ في محاولة الخروج من أزمة الانسداد الدستوري، اقترح بعض النواب الليبيين “إجراء انتخابات وطنية في ظل وجود حكومتين”؛ وأكد البعض الآخر على ذلك، بشرط العودة إلى دستور 1951. ففي حوار معه بجريدة “إندبندنت عربية”، 25 سبتمبر الماضي، حول إمكانية إجراء كل من باشأغا والدبيبة للانتخابات، في مناطق نفوذيهما، لتفادي الصراعات السياسية والأمنية التي تتخبط فيها البلاد، قال عضو البرلمان جبريل وحيدة “إنه في حال المرور إلى هذا الحل، لا يوجد أمامنا غير اللجوء إلى دستور 1951 الفيدرالي، باعتبار أن هناك عدم ثقة في المركزية التي أوصلت البلد إلى ما هي عليه منذ 50 سنة إلى الآن”. وهو ما يعني صعوبة هذا الإجراء، خاصة في حال رفض النتائج من بعض الأطراف، إذا ما فاز طرف منافس بالانتخابات.
من الدوافع كذلك، المبادرة المصرية والفيدرالية في ليبيا؛ كان للمبادرة المصرية، التي أعلنت في 6 يونيو 2020، دور كبير في إلقاء الضوء مجددًا على فكرة عودة النظام الفيدرالي إلى ليبيا، لحل الخلافات المزمنة حول تقاسم وتوزيع الثروة والسلطة، وتوسيع صلاحيات الحكم المحلي لحل مشكلة النظام المركزي في الحكم، الذي جعل من العاصمة طرابلس مركزا دائما للصراع.
والملاحظ، أن المجتمع الدولي، خصوصا الغربي، كان يرفض في السابق أي توجهات لإقامة دولة فيدرالية في ليبيا، خشية أن تؤدي إلى بعثرة الثروة النفطية؛ إلا أن الموقف قد تغير منذ إعلان “مبادرة القاهرة” للسلام، التي أعادت الحديث عن الشكل الفيدرالي للدولة الليبية، القائم على الأقاليم التاريخية الثلاثة، برقة وفزان وطرابلس، كحل محتمل يمكن أن يضع نهاية للأزمة الليبية، ويُرضي جميع أطراف الصراع، خصوصاً بعدما أثبتت التجارب صعوبة قيام دولة مركزية.
احتمالات مستقبلية
في هذا السياق، يمكن التأكيد على أن الدعوة إلى “رئاسة ثلاثية” في ليبيا، من جانب المسئولة الأممية السابقة لدى ليبيا ستيفاني وليامز، مع المناداة في الداخل الليبي بالعودة إلى دستور 1951 الفيدرالي، إضافة إلى المبادرة المصرية في كيفية حلحلة الأزمة الليبية، على أساس من الفيدرالية، كلها تؤشر إلى أن الخلاف في المسار الدستوري هو أحد أهم الأسباب في استمرار الأزمة، وأنه خلاف بين تيارين سياسيين يتصارعان في البلاد.
بل، إن استمرار الخلاف في المسار الدستوري، يفتح المجال أمام إدارة دولية للأزمة الليبية، سواء بتدخل مباشر لبعض الدول صاحبة القرار، والمتنفذة في تفاعلات الساحة الليبية، أو عبر آليات دولية مختلفة، أو من خلال تنشيط دور المجلس الرئاسي ليتخذ خطوات تشريعية وتنفيذية، بخصوص عملية إجراء الانتخابات في ليبيا.
وأيا يكن الأمر، تبدو الفيدرالية كحل واقعي للأزمة الليبية، في ظل التهميش السياسي والاقتصادي، الذي عانى منه إقليمي برقة وفزان طوال حكم القذافي؛ هذا فضلا عن تلاقي الفيدرالية مع مصالح الأقليات العرقية، من أمازيغ وطوارق وتبو، خاصة وأن دعاة الفيدرالية الليبية يقدمون النموذج الاتحادي الإماراتي، كـ”نموذج” عربي ناجح، يمكن القياس عليه في ليبيا.