a”مع الحياة حياتي حياة، وعمرٌ جديد أراه، حياتي أملٌ، فما فات منها رحل، وما غاب فهو طريد الأمل.. حياتي أمل. مع الأمل، وجودي أملٌ، وعمري أملٌ وكل حياتي أملٌ، ومهما تكن خافيات الأجل، فإني أملٌ، ودربٌ جديدٌ لشط الأمل. فإنْ شجري قطَّعته أيادي الخريف، ربيعي سيُحييه غض القُطوف، وإنْ زهري أسقطته الرياح، سيأتي مع العطر عند الصباح، ولو مزَّق الشوكُ أحلام قلبي، فحبي وإيمان قلبي وروحي يذيبان جمر الأسى من جروحي، ومهما بروضي غصنٌ ذبل، سيُحييه للروح فجر الأمل. مع الطريق طريقي أملٌ وخطوي أملٌ وكل دروبي أملٌ، ولابد أمضي ويمضي طريقي، وتمضي خُطىَ الروح بين الحريق، فإنْ كان ضوءٌ مضيت وإن كان ليلٌ مضيت، ولابد أمضي ويمضي طريقي، على الزهر أو فوق صدر الحريق”.
ما سبق هو مقتطفات من ثلاث قصائد للشاعر محمود حسن إسماعيل [1910-1977]، وهي قصائد: الحياة، والأمل، والطريق، وكلها تتحدث عن ضرورة التمسك بالأمل؛ إذ أن الإنسان هو كائن يتطلع دومًا إلى الغد الذي قد يأتيه حاملًا له في جعبته ما هو مختلف عمَّا كان في الأمس. ولولا ذلك المستقبل المُنتظَر والتطلع إليه –رغم غيبيته– لما تطور الإنسان أو تطورت الحضارات التي لم يكف البشر عن بنائها بحماس ومثابرة منذ أقدم العصور.
ولا يختلف الإنسان عن غيره من الكائنات الحية التي تظل دومًا في حالة حركة مستمرة ما دامت على قيد الحياة؛ فحركتها تلك هي التي توحي بالحياة بل إنها تؤكد لكل من يراها أنها ما زالت ذات وجود فعلي ملموس. وما يميز السعي البشري بجدارة هو ذلك التنوع الذي لا يشمل جمع الطعام أو تأمين المسكن وفقط؛ بل إنه يتطور إلى تحصيل العلم، وممارسة الحِرَف والفنون، والقيام بالبناء والاختراع والتصنيع، وإجراء التجارب من أجل اكتشاف وإنتاج كل جديد لم تشهده البشرية من قبل. وكل ذلك ينتج عنه التقدم والتطور الحضاري وهو أهم ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات؛ إذ أنه يتمكن من صنع ما يدل على وجوده، كما يُخلِّف وراءه ما يبرهن على تفرده وقدرته على الإنتاج بشقيه المادي والمعنوي.
وإذا كان العمل لابد له من ثمار، فإنه حتمًا يتطلب تقوية جذوره المغروسة في تربة الحياة والتي لا يرويها سوى الأمل الذي يرادف التعلق بالغد على الرغم من أنه لم يأتِ بعد. ومثلما تُقدِّم الحياة للإنسان كل يوم الفرصة تلو الأخرى للتجدد الذي يتميز به عن غيره من الكائنات –ما دام قادرًا على التفكير والإنتاج– فهذا يعني أن الحياة تحمل له بين جوانحها الطاقة التي تُمكِّنه من العمل وصناعة مستقبله بيده، فلا مستقبل بدون عمل، ولا غد ليائسٍ تخلَّى عن الأمل الذي ينطوي على الكثير من المعاني.
إن الأمل الذي ينطوي بالقطع على الرغبة والاشتهاء يتضمن أيضًا معاني التفاؤل والتمني والترقب والتوقع والانتظار. ولكن الأمل يختلف عن الرجاء في أنه قد يكون مكسُوًّا بالغرور والكبر أو متشحًا بالتواكل والخمول، بينما الرجاء فيه طلب وتوسل ولا يمكن فصله عن العمل والكد. لذلك فإن الأماني قد تكون معلَّقة في سماء الشطحات العابرة أو متمسكة بالأباطيل والأوهام الكاذبة، وفي هذه الحالة تكون الأهداف والغايات غير معتمدة على الخطط الموضوعية؛ بل تغرق في الخيال والوعود البراقة الكاذبة بعيدًا عن الواقع وعن أية حسابات منطقية.
وقد يرتبط الأمل في بعض الأحيان بتحقيق المستحيل؛ ما يتطلب وجود إرادة حديدية، وصبر ومثابرة لا ينفذان، بالإضافة إلى اجتهاد منقطع النظير دون كلل أو ملل، ويسبق كل ذلك قدْر من التفكير العميق والتخطيط المنطقي.. وهذا النوع من الأماني يترتب عليه الكثير من النشاط وعدم التوقف عن العمل وبذل المجهود دون أي مجال للتكاسل أو الخمول، أو السكون بلا أية حركة فعالة؛ ومن ثم لابد من توفر قدر كبير من الإيمان الراسخ والتصديق الذي لا يعتريه شك بالقدرة على تحقيق الأهداف؛ مهما كانت مستحيلة والوصول إلى الغايات، بالرغم من تكبد المشاق ومواجهة الصعوبات.
فماذا لو اجتهد الإنسان ولم يصل إلى غايته؟ أو إذا لم يكن مؤهلًا من الأساس للهدف الذي اختاره لنفسه وهو يعلم أنه يفوق قدراته، ومع ذلك بدأ السير إليه في إصرار على تحقيقه؟ أو إذا سلك أحدنا الطريق الخطأ من أجل الوصول إلى أهدافه؟ أو إذا أصابه اليأس فور ظهور العراقيل والعقبات فتخلَّى عن حُلمه بسهولة؟
إن كل هؤلاء لن يتمكنوا من نيل شرف النجاح أو جني ثمار ما زرعوه، ومع ذلك لا يجب على أي منهم التوقف؛ وكأن الحياة قد انتهت بل لابد من الاستمرار وتعديل المسار؛ ولذلك هناك ما يُسمَّى بفن صناعة الأمل الذي يجب الاستعانة به عند كل إخفاق من أجل التغلب على اليأس، الذي ربما يفضي إلى التخلص من الحياة برمتها.
إن ما يفرضه الواقع من تكالب على مظاهر الحياة المترفة، وتزاحم على ضرورياتها الأساسية؛ ربما يشغل الكثيرين عن الحُلم العام، والاكتفاء بتحقيق الأهداف الشخصية الأنانية؛ ومن ثم تغليب المصلحة الشخصية على الصالح العام، ولكن هذا النوع من التفكير النفعي سيقود إلى التشرذم والتفكك من جهة، وإلى الغرور والاستعلاء من جهة أخرى، ما سيتسبب في ازدياد معاناة الفئات المطحونة.
لذلك إذا كان على الجميع التحلي بروح الأمل والتخلي عن النظرة التشاؤمية، فعليهم أيضا في نفس الوقت أن يقاوموا كل ما يدفعهم إلى الانعزالية أو يقودهم إلى الاستعلاء، وعدم مشاركة الآخرين في الحُلم العام بالحرية والاستقلالية. وبالقطع لن تتحقق الحرية الجماعية؛ إلَّا على يد من تمكنوا أولا من نيل حريتهم الشخصية وتحقيق استقلالهم المادي والفكري؛ فاستطاعوا أن يتخلصوا من التبعية والخضوع بدون تفكير، لكل ذي سلطان يجبرهم على عيش حياة لا يريدونها، أو تلقي تعليم لا يرغبون فيه، أو ممارسة مهن لا تلائم ملكاتهم الإبداعية.
وهكذا قد يتلاحم بشكل أو بآخر الحُلم الشخصي مع الحُلم العام، فكلاهما لابد أن ينبعا من داخل الإنسان، فلا يُملى عليه بطريقة فوقية تسلطية معالم حُلمه، أو توقيته وخطوات تنفيذه. فاختيار الحُلم برغبة عارمة فيه واشتهاء له هو بداية طريق التحرر للفرد والمجتمعات. فهل اختيار الأحلام أمر فطري شأنه شأن القدرة على الحُلم، أم لا بد من تأهيلٍ ما، لكيفية اختيار الأحلام المناسبة، حتى لو كانت ليست عظيمة بما فيه الكفاية؟
إن الحياة الثقافية والفكرية في أي مجتمع؛ من الممكن أن تصاب بحالة من الركود والشلل؛ إذا ما جُففت منابع الإبداع والفكر، وحجبت منابر الرأي الحر التي تُشكّل الوعي العام.. آنذاك من الطبيعي أن يظهر على السطح كل ما هو هابط، فيهبط بالذوق والفكر العام إلى الحضيض؛ مقتلعًا روح الحياة بكل ما فيها من حيوية وإشراق؛ فتبدو الوجوه إما عابسة أوشاردة، ولا تتراكم فوق الرءوس سوى الأحمال الثقيلة المُجهِدة؛ ومن ثم تضيق الأنفس بأتفه مشاكل الحياة اليومية؛ حتى تبدو وكأنها لا تعلم السبب الحقيقي لعذاباتها التي تخفيها، والتي لا تجرؤ على التفوه برغبتها في التخلص من مسبباتها. لذلك ليس غريبًا في تلك المجتمعات أن يتزايد معدل الجريمة مع ازدياد الكبت العام، بل وأن تزداد بشاعة الجرائم دون مبرر واضح لكل تلك القسوة أو ذلك الانتقام الدموي الشنيع.
بينما إذا لم يكن هناك خوف من النهوض بالوعي المجتمعي ولم تكن هناك خشية من المعارضة البناءة الواعية، فستتحرر المجتمعات من قيود الاستبداد التي تعرقل حركتها الحرة نحو الارتقاء الذي هو أمل الأسوياء من البشر –ليس لأنفسهم وحسب بل للناس جميعًا. فليس هناك أي معنى للحياة مع فقدان وسائل الحرية في الفكر والعلم والفن والعمل؛ بل إنه مهما بُذِلَ الجهد في العمل؛ فلن يكون هناك أمل ما دامت ليست هناك حرية حقيقية مسئولة يتمتع بها الإنسان بحق ودون خوف.
ومتى تنعَّم الإنسان بمتعة الحرية في ظل تمسكه بعقل مفكر وقلب سليم وضمير حي؛ فلن يختار ما يرغب فيه ويشتهيه بطريقة عشوائية أو انقيادًا لما هو سائد وشائع؛ بل سيتحكم في رغباته ويتأنى في أحلامه كي يختار ما يناسبه ويمكنه أن يتحمل مسئوليته بعدما أعد العدة لتبعاته واستعد لعواقبه.
فهل تستحق الحرية أن تكون هي الحُلم العام الذي تظل هناك حاجة ماسة إلى استدعائه في ظل الشعور العام بالإحباط والضياع والتدني وفقدان القدرة على الريادة والزعامة، بالرغم من احتفاظ الذاكرة بأمجاد الماضي التليد الذي يبث رجفات الأمل في الروح الأبية مثلما يضخ نبضات الحسرة في النفوس الكسيرة؟!
وفي المقال القادم سنجيب على هذا السؤال ونكمل فن صناعة الأمل.