من لم يتجرع مرارة الألم؛ لا يمكنه أن يصف مدى قسوته، ومن حُرم الشعور بآلام الآخرين؛ لن يتمكن من التعبير عن محنتهم ومعاناتهم، و هذا الذي أخفق في إخراج نفسه من محنة آلامه، كيف له أن يبسط يد العون لغيره ممَّن يكابدون الصراع مع الآلام والأحزان؟!
والأديب والمفكر المصري مصطفى صادق الرافعي [1880-1937]، ابن ريف مصر والمولود في قرية بهتيم الواقعة في محافظة القليوبية، والذي قضى معظم حياته في طنطا، حيث كان والده يعمل قاضيًا بها، إلى أن وصل إلى منصب رئيس المحكمة الشرعية، ما أن وجد لنفسه مخرجًا من آلامه؛ حتى دوَّن بقلمه ما يرشد قراءه إلى كيفية التخلص من كل ألم وحزن وتعاسة وشقاء، خاصة وأنه برغم فقدانه لحاسة السمع في ريعان شبابه لم يكن في معزل عمَّن حوله.
في عام 1931، أصدر الرافعي – أحد أهم أقطاب الأدب العربي الحديث– كتابه الأدبي (أوراق الورد) الذي حوى الرسائل المتبادلة بينه وبين محبوبته، وهو إلى جانب ما يتميز به من معانٍ رقيقة ودلالات عميقة، تضمن فصلا دوَّن فيه الرافعي رؤيته الفلسفية لكل من الألم والمرض.
وتحت عنوان “صرخة ألم” تحدث الرافعي عن أوصاف الألم الذي يسببه الحب وتسببه الحياة، وكأنه لا يمكن الحديث عن الجمال والحب بدون الحديث عن الألم والمعاناة!
يرى الرافعي أن الألم هو أشد وثاق يكبل الإنسان، ومع ذلك فهو المعنى الأهم في الحياة والذي يعبر عن إنسانية البشر. ومعاناة الإنسان من الألم لا تنتج فقط من المرض الداخلي الذي يصيب جسده فيندفع الألم خارجًا منه، ولكنها تتولد أيضا من كل ما يحيط بجسده من أمراض خارجية ترد إليه الألم من جديد. وكأن قوته قد قُدِّر لها أن تحاصَر داخليًّا وخارجيًّا؛ كي يتم إحكام السيطرة عليها.
وحتى كل ما يحاول الإنسان التمكن منه عن طريق الإحاطة بمعناه؛ لا يجني منه –كلما اكتمل لديه المعنى– سوى الألم.. فالحكمة مثلًا يتألم بسببها الحكيم الذي ألَّم بها وحده فأصبح وسط الجموع التي لا تفقهها ولا تبغيها غريبًا وشاذًّا؛ ومن ثم وحيدًا. وهذا لا ينفي أيضًا أن كلًّا من الجاهل والسفيه يتألمان بسبب الافتقاد إلى الحكمة ألمًا أشد، ولكنه خفي عنهما؛ وذلك بسبب عدم تمكنهما من جني ثمارها النافعة.
إن ألم الإنسان يشبه ألم الطفل المدلل الذي يَسعد بالتحكم في كل ما يحيط به ولا يحزن أو يتألم إلَّا إذا تمرد عليه ما لا يقوى على إخضاعه لقوته المحدودة. ومع ذلك فإن كل ألم يعود على الإنسان إما بمنفعة أو لذة أو حكمة. وها هو الإنسان الحكيم لا يبدو عليه الألم بسبب عجزه أمام كل ما هو مادي، ولكن بسبب تعاليه دون غيره عن الماديات، وترفّعه عنها في عالم يغرق في الماديات ويخضع لسلطانها.
أما أهم ثمار الألم والحزن التي أشار إليها الرافعي فهي الارتقاء بإنسانية البشر لأن تلك العواطف والأحاسيس السامية التي تتولد بسبب الألم والمعاناة بإمكانها أن تخلق حياة معنوية للقلب إلى جانب الحياة المادية للجسد. فكل شيء مادي يفقده الإنسان فيتألم لفقدانه ينبعث بسببه صوت كان دفينًا في أعماق ضميره؛ كي يحثه على الترحيب بما يجب أن يحل محله لأنه خير منه بسبب روحانيته، وبالفعل فإن نفسه كانت في أمس الحاجة إليه، ولولا ذلك الفقد المادي لما حصلت على ما تحتاجه وتفتقده من روحانيات هي الأهم لها من أجل الارتقاء بها.
وهكذا فإن كل فقد مادي يعوضه مكسب روحاني ومعنوي، فالألم هو طفل كل معنى نكتسبه بفضله، أو كما يقول الرافعي:”إن آلامنا هي أطفال معانينا”.
وفي تخيل لا يخطر إلَّا على خاطر فيلسوف حكيم لا يفصل بين طبيعة الإنسان وطبيعة الأرض التي خُلِق من طينها- قارن الرافعي بين ما يُكدِّر صفو حياة الإنسان من أحزان وهموم وآلام، وبين مظاهر الطبيعة التي تبدو خلابة لعوام الناظرين إليها، فإذا به يرى الهموم مثل الجبال الراسيات، وأنهار الدموع مثل الأمواج المتدفقات، والأحزان مثل البراكين الثائرات، مما أوحى إليه بأن ما يمنح النظام للطبيعة، وما يمنح الألم للإنسان هو السر الكامن في أعماقهما والذي بدونه لن يكون لهما معنًى أو بقاء.
فالألم هو سر الضعف الإنساني، وهو أيضًا سر النضج النفسي، الذي يُتَغَلّب على حماقة الطفولة فور تحققه، فيزول تعلقها الساذج بكل ما هو زائف ومؤقت، ما دام لم يزل في نظرها برَّاقًا ولامعًا. فالعين لا ترى الأشياء المادية كبيرة وبراقة، إلَّا إذا كان ما سواها من معنويات وروحانيات لم يزل في نظرها صغيرًا ومنطفئًا.
والألم بإمكانه أن يبعث القوة في الروح، بقدر ما يسببه في البدن من ضعف؛ وذلك في حالة إذا ما فقه الإنسان بقلبه السر في المنع والحكمة من البلاء.. آنذاك فقط تتحول أمامه المحنة إلى منحة، والألم إلى أمل؛ فتحل في لحظة فارقة إيجابية التعلق بالحياة وببداية جديدة محل سلبية انتظار النهاية وطلب الموت.
لذلك فإن أسقام الأبدان وأوجاع القلوب؛ تقضي فقط على الأبدان الضعيفة أمام جبروت المرض وآلامه، وعلى القلوب الهشة أمام عنفوان الفقد وأحزانه، أما إذا صادفت أثناء عدوانها أرواحًا قوية ومؤمنة، فستتهاوى أمامها وكأنها غير موجودة برغم ما تسببه من ألم يعاني منه البدن، وحزن ينفطر منه القلب.
ولن يرتاح كل من يعاني من ألمٍ ما، ولن تلتئم جراحه إلَّا عندما يبصر بنفسه، ما أفرزه الألم وأنتجته المعاناة من حبات لؤلؤ، لم تكن لتخرج من أصدافها لولا تحمل ويلات الحياة واجتياز خطوبها. وكأن تلك الحبات هي نفسه التي وُلِدت من جديد؛ كي تكون أكثر جمالا وأعظم قوة.
غير أن أهم ما طرحه الرافعي في كتابه (أوراق الورد) بخصوص فلسفته التي تستخلص الحكمة من المرض – كان هو ما نشره أيضا في مجلة الحديقة عام 1931، بعنوان “فلسفة المرض”، وفيه أوجز بيانه لطبيعة النفس الإنسانية التي تطمع فيما ليس في يدها وتظل في شوق وتلهف عليه، والتي تتقلب بين الرضا والسخط؛ كي يظل هناك ما ترغب فيه وتسعى إليه، والتي تتطلع إلى تخطي كل الحدود؛ لأنها فُطرَت على التعلق بالخلود، فكان من الطبيعي لها أن ترفض مسألة فقدانها للحياة أو أن تقنع بعدمية الفناء كمصير لها بعد أن ذاقت لذة الوجود وعرفت معنى الحياة.
ولذلك فإن تلك النفس تحتاج إلى ما يحد من شوقها الثائر لكل ما تطمع فيه، وإلى ما يهدئ من جموح ثورتها المشتعلة ويُسكِّن من فوران رغباتها المجنونة، وإلى ما يقف عثرة في طريق حُلمها بالخلود؛ فيعترضه كي تتأمل ما بها من ضعف، وما يخفى عليها من نقص فيها يحول دون كمالها؛ ولكنه قد يمنحها النضج الإنساني، ويحقق لها السلام النفسي بعدما حُجّم غرورها وحُدّ من تكبرها وطغيانها.
والمرض وحده هو الفرصة المتاحة قبل قدوم الموت، كي تخمد في الإنسان نيران شهواته وأهوائه، فالألم والوهن والضعف قادرون على تغيير نظرة الإنسان لنفسه وللحياة. فما يبثه المرض في الإنسان من زهد وتقوى خلال أيام قليلة لا يمكن أن تعمل العبادة مثله إلَّا خلال سنوات طويلة؛ وذلك لأنه قد تبين بنفسه مدى ضعفه ومدى قدرة خالقه، وكيف غلبت عليه شهواته وأهواؤه فتحكم سلطانها في حركاته وسكناته. ولذلك فإن المرض يظل هو الوسيلة العامة التي تجمع بين الإنسان وحقيقته العليا والتي تتناول الناس جميعًا دون أن يستعصي عليها أحد سواء أطاع أو عصى، فإن كان طائعًا فسيزيد المرض من تقواه ويمحو عنه هفواته وزلاته، وإن كان عاصيًا، فقد يرده المرض عن تمرده وفسوقه.
وهل هناك ما هو أشد من وثاق المرض وقيود الألم على الإنسان المتباهي بقوته والمتفاخر بصحته وغير المبالي بزوال عافيته؟ فإذا به في أقل من ثانية واحدة يجد نفسه قد خارت قواه وضعف جسده ووهن عظمه ولا يمكنه أن يضع قدميه على الأرض؛ كي تحمل جسده المتهالك إلى مكان قضاء حاجته! آنذاك فقط إذا تأمل بعمق فسيرى الأمور على حقيقتها وسيصغر في نظره ما كان كبيرًا وعظيمًا ليصبح تافهًا وحقيرًا.
ولكن كيف يمكن للمرض أن تكون فيه العافية للإنسان؟!
إن المرض الذي يصيب الإنسان –حسب وصف الرافعي– إما أن يكون فيه الإنسان كالوعاء الذي يشق ويتحطم فيقضى عليه، أو أن يكون كالوعاء الذي يُصَب ما فيه كي يُنظَّف ثم يُملأ من جديد مستعيدا الحياة. وذلك الإكراه الذي يفرضه المرض والألم على الإنسان فلا يتمكن من تحطيم قيوده التي تتسبب في عجزه بعدما كان قادرًا، من شأنه أن يصنع منه إنسانًا جديدًا إذا ما تأمل الحقائق التي كان غافلًا عنها لاهيًا بأوهامه وغارقًا في سرابها. وهكذا يكون في المرض عافية للإنسان؛ كي يتخلص من غروره وأوهامه وضلالاته وطيشه وسوء تقديره.
وكأن الأمراض والأسقام التي تأكل في أجساد البشر تعيد بناء الإنسانية من جديد، ولكن بعد تطهيرها من آفاتها التي قد تؤدي إلى إهلاكها، فإذا بها بإضعافها للأبدان تُهذب من كل قوة في الإنسان من شأنها أن تحط من قدره، فتنأى به عن الارتقاء نحو ما يسمو به وبروحه. ومن هذه القوى: تلك النزعة الحيوانية الدونية في الإنسان التي تتعاظم في نفسه كلما كان قويًّا سليمًا، وما تصارعه روحه من شطط أهوائه وجموح شهواته التي في قوتها وتوهجها إهلاك لنورانية روحه، وما يتأجج في نفسه من أنانية وطمع ورغبة محمومة في التفرد والتميز وحب التملك والاستئثار بالمنافع، وكلها لا تقوى إلَّا بجمع الأموال والتمتع بالنفوذ والجاه والسلطان وما يقودون إليه من فسوق وطغيان.
وهكذا يكون المرض رحمة خفية وفرصة حقيقية لتعديل المسار أو تغيير الاتجاه، وعظة لمن يعتبر، وذكرى لمن يتذكر ويريد أن ينتبه من غفلته. فبينما تتجمل الحياة ويزداد بريق الدنيا للناظرين إليها والطامعين فيها، تقتحم فجأة الآلام تلك الصورة البديعة لا لتشوهها ولكن لتصوِّب من زاوية رؤيتها لربما يستعين الإنسان بعدسة سليمة يرى بها الصورة كاملة وواضحة دون زيف أو خداع. آنذاك تتعافى الأخلاق –حتى لو لم تسترد الأبدان صحتها وعافيتها– فيعود الإنسان إلى نفسه الحرة بعدما استيقظ ضميره واسترد وعيه. حينها يقترب من كان بعيدًا، ويهتدي من كان ضالًّا، فيعرف جميل صنع ربه ويمتن لعظيم فضله لأنه أمهله ولم يطرده من واسع رحمته.
ولذلك يرى الرافعي أن كل ضعف وهوان وعجز لن تتعافى معه الأرواح والقلوب إلَّا إذا كان سببًا في فهم حقيقة الحياة وزوالها، فإذا بكل نعيم في الدنيا تتشبث به الأنفس قبل الأيدي إما أن يزول أو أن يكون فيه الهلاك المحتوم، وإذا بكل إسراف في الملذات وإنكار للموبقات لا يورِّث سوى الندم والحسرة؛ ولكن مع استرداد العافية واستعادة الصحة والقوة لابد أن تبدأ الحياة من جديد، ولربما يتم استقبالها بثوبٍ جديد يناسب ذلك البدن الذي برأ من الأسقام والأوجاع، وتطهَّر من الذنوب والآثام، فتسامت نورانية روحه على ظلمة ملذات نفسه التي ارتقت فوق مذلاتها وتحررت من أسر أغلالها.