رؤى

الفقر والغنى في فكر وأدب “مصطفى صادق الرافعي” (1)

هو ممقوت بلا شك، ومنه يهرب الناس في كل زمان ومكان، ولكنه يلاحق الكثيرين بلا هوادة، فإذا ما أمسك بأحدهم لم يفلته من يده بسهولة. وهذا الذي يفر من مغالبته سيُلحق به الهزيمة لا محالة، أما من يُصر على مصارعته حتى النهاية – فلن تكون خسارته عظيمة إذا لم يربح أمامه – ما دام قد نجا بنفسه من تسلطه عليه وقهره لإرادته التي يستعين بها على تغيير واقعه المؤقت- طالما نفسه ما زالت حرة.

وتلك النفس الحرة هي أشرس أعدائه لأنها لن ترضى بالاستسلام أمامه ولن تعرف سوى الغنى والترفع عن الدنايا؛ ومن ثم لن تسقط في مستنقع المذلة التي تفرضها الفاقة، ولن تُستدرَج إلى هاوية الملذات والفتن التي تختال ببراعة؛ فيجذب بريقها كل متلهف للمتع الحسية وكل من تغريه شجرتها المكتظة بالثمار اليانعة، فلا يهدأ حتى يقطفها كي يذوق مما لن يكتفي منه إلَّا إذا عزم على الزهد فيه.

إنه غنى النفس.. الذي يقف بشموخ أمام غول الفقر المفترس؛ بينما هو ينهش في لحوم المساكين؛ رافضًا أن يتركهم إلَّا وعظامهم نخرة. ومثلما يسلب الفقر من الفقراء قيمتهم التي تفرضها إنسانيتهم العاقلة، فإنه لن يتهاون في الحط من شأنهم، ومن ثم سيتجنب الكثيرون الاقتراب منهم إلَّا شفقة وإحسانًا، ولن يكون هناك أي داعٍ لمزيد من الالتصاق بهم، طالما ليست هناك أية منفعة دنيوية من وراء الاحتكاك بهم والتعامل معهم.

فيا تُرى من هذا الذي بمقدوره الانتصار على الفقر، وعلى كل ما يسلبه من الإنسان وكل ما يقتلعه من جذور إنسانيته؟

منذ ما يزيد على قرن من الزمان دارت رحى الحرب العالمية الأولى [1914-1918] التي أفنت عددًا كبيرًا من البشر، وذلك إثر استعار نيرانها بين قوى العالم العظمى آنذاك. وبالرغم من أن ميادين معاركها الطاحنة كانت بعيدة عن بلادنا؛ إلَّا إنها أرسلت إليها الفقر والجوع والغلاء، فبات ضحايا مصر من فرط الجوع وشدة الفاقة؛ لا يختلف عددًا عن قتلى المعارك الحربية المشتعلة.

والأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي [1880-1937]، الذي قال عنه الزعيم السياسي مصطفى كامل: “سيأتي يوم إذا ذكِر فيه الرافعي قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان”، كان يتمتع برهافة الحس ورقة القلب ونبل العاطفة؛ فينفعل لأي منظر مؤلم وتتحرك له نفسه وينفطر بسببه قلبه؛ ولذلك كانت أخبار الفواجع من حوله لا تمر عليه مرور الكرام؛ بخلاف ما اعتاد عليه غالبية الناس الآن، الذين يشاهدون الكثير من مآسي البشر على مدار اليوم عبر الشاشات الرقمية؛ دون أن يحركوا لها ساكنًا.

والرافعي الأديب والمفكر لم يكتفِ إزاء ما كان يُقص عليه من أنباء الفواجع، ببريق الدمع يلمع في عينيه؛ فيحبسه حياؤه، بل شرع بعدما شهد بنفسه ضحايا الفقر والجوع في تدوين كتابه الأدبي “المساكين” الذي صدر عام 1917، والذي يُعرِّفه الرافعي بنفسه فيقول في مقدمته: “إنه كتاب أراد به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس”؛ ولذلك فقد حوى ذلك الكتاب صورًا من آلام الإنسانية، تلتقي عندها آهات المرضى، ودموع الجوعى، وزفرات المساكين، وصرخات الملهوفين. وما يحويه هذا الكتاب من حكمة بليغة؛ كفيلٌ بطمأنة قلوب وعقول أولئك الذين يعانون، وغيرهم ممن يشاهدونهم ويحاولون مساعدتهم، ومع ذلك ليس بإمكانهم تخليصهم من معاناتهم.

وعلى مدار هذا الكتاب يتشبع القارئ بالحكمة التي تخرج من فم الشيخ علي، والتي وضع الرافعي كتابه هذا من أجل إيصالها للناس.

والشيخ علي، هو ذلك الرجل الذي عاش في نعمة الرضا، فترفَّع فوق كل آمال الناس وآمال الحياة، وكان هو والدنيا خصميْن في ميدان الحياة، فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها وإلى زينتها؛ ومن ثم لم تتمكن من إيقاعه في شراك إغوائها؛ فقهرها هو وانتصر عليها.

وبعد أن التقى الرافعي بالشيخ علي الجناجي، واستمع إليه عرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من مشكلات، وكأن الشيخ علي هذا.. لم يكن سوى ذلك الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب الذي كان يؤمن في حياته بفلسفة الرضا والقناعة فكان لا يُرى إلَّا ووجهه تكسوه ابتسامة توحي بقدرته على التغلب على مصاعب الحياة بل وسخريته منها، خاصة وهو من عرف معنى السلب والحرمان ومعنى الألم والمعاناة بعد فقدانه لسمعه نهائيًّا في ريعان شبابه.

وبين دفتي كتاب “المساكين” أفرد الرافعي بعض الفصول عن الفقر والفقراء وصف فيها بأسلوبه الأدبي الجزْل حال الفقراء والمساكين مقدِّمًا تعريفات فصيحة للفقر والفقير، كما وصف حالة الخوف من الفقر، ومسببات الفقر، ومدى تعاسة البخيل، والفرق بين أحياء الأموات وأموات الأحياء في توضيح بليغ للارتباط بين الفضيلة والضمير، هذا بالإضافة إلى التمييز بين حقيقة الغنى وحقيقة الفقر في إشارة موجزة إلى الحكمة من تحريم الربا في الإسلام وأهمية إخراج الزكاة وإظهار التعاطف والتراحم بين الناس.

فالفقر كما عرَّفه الرافعي ليس هو فقط قلة المال أو عدم وجوده على الإطلاق، بل إنه يتعلق أيضًا بقلة الأخلاق، وكذلك هناك فقر القلوب وفقر العقول وفقر الضمائر، فمثلما أن الجوع مرتبط بالفقر في المال، والمرض مرتبط بالفقر في الصحة، والسخط والضجر واليأس لهم ارتباط بالفقر في سكينة النفس واطمئنانها، فهناك أيضًا تبلد المشاعر، والأنانية البغيضة، والطمع فيما هو محرَّم أو غير متاح، واشتهاء ما ليس من الحق الحصول عليه، وعدم الاكتراث بمساعدة الآخرين، والتعالي على الإشفاق عليهم والتعاطف معهم.

وهكذا يرى الرافعي أن المال ليس سوى نعمة ناقصة لن تتم إلَّا إذا رُزق الثري مع المال أخلاقًا تكفيه شر الغِنى؛ ولذلك فإن العقل يكون في إنفاق المال أشد ارتباكًا منه في جمع المال والحصول عليه. كما أن الرافعي يصف الفقر بأنه سبب الرحمة التي تخبرنا الحياة بأنها سبب الإنسانية، وإنه هو مظهر الإنسانية التي تقول الآداب إنه كامن في الضمير، وإنه أيضًا كمال العقل الذي يرى العلم إنه هو ما يجمع الناس بعضهم ببعض، كما إنه فضيلة العدل الذي تدعو الشرائع إلى إقامته بين الناس، فكيف يمكن للفقر أن يكون كل ذلك؟!

لقد قدَّم الرافعي ما يعلل به رؤيته السابقة للفقر بأنه قرين بحقيقة الإيمان، بل إنه يخبر عنها، فإذا كان الإيمان يجمع بين العقل والضمير والأخلاق والرحمة والعدل في بوتقة واحدة، فإن الغَني الذي يَخرج الإيمان من قلبه لن يكترث بمسئوليته عن آلام الفقير أو حتى موته بسبب الجوع أو العُري أو المرض، وهكذا يكون كفر الأغنياء كفرًا كامنًا في ضمائرهم وليس ظاهرًا على ألسنتهم.

فالغَني إنما أوتي من مال الله كي يواسي الناس ويسعد المحتاجين الذين إذا ما أبصروا وجهه فكأنهم يبصرون ابتسام الدهر لوجوههم العابسة الحزينة التي تعكس ظروفهم القاسية، حينئذٍ ستجف دموع المحزونين وترتاح أنفاس المكروبين مع كل عطاء من الغَني للفقير. وهذا العطاء لا ينتفع منه الفقير وحده، بل إن الغني أيضًا يكون له نصيب من الانتفاع بالإنفاق على الفقير على الرغم من أنه يبدو في ظاهره انتقاص للمال؛ فمثلما تسبب المصائب الألم وتمنع أية لذة أو متعة فإن النِعم أيضًا إذا حُرِم صاحبها من الاستمتاع والتلذذ بها، فسيتولد لديه الضجر منها والسخط عليها، ما سيحرمه من السعادة التي كان يعتقد أنها مقرونة بالثراء وكثرة الأموال. والإنفاق وحده هو السبيل لتقدير الغَني لنعمة المال؛ وذلك بسبب ما يمنحه العطاء من شعور بالسعادة التي لا يستشعر لذتها سوى أصحاب القلوب السليمة، والأخلاق القويمة، والضمائر الحية، والعقول الناضجة.

ومثلما يظل طلب المال هو العمل الإنساني العام – سواء من أجل الاكتفاء به عن السؤال والحاجة إلى المساعدة، أو للاستكثار منه بذخًا في الإنفاق أو اكتنازًا له بخلًا أو علوًّا– فإنه ليس هناك معنى إنساني عام غير راجع إلى الفقر، بل إن المعنى الخالد الذي يفرض نفسه على كل هواجس القلوب هو خوف الفقر والفاقة. وأهم ما يعانيه الفقير ليس هو قلة المال بقدر ما هو قلة الحيلة والجهل بما يجب عليه معرفته وخاصة نفسه.

فالفقير هو ذلك الكائن الضعيف الذي يتجاهله الأقوياء ويعرضون عنه ويأنفون لقاءه ويصعِّرون خدودهم له متنكرين له ولوجوده بكل استعلاء وكبرياء، وكأنه نوع شاذ من الخلق لأنه ضعف عن اللحاق بهم في سباق الغِنى والثراء. وهذا الكائن المستضعف بحكم ظروفه قد قُضي عليه بأن ينفق من حياته أضعاف ما يكسب لتلك الحياة؛ فمهما كدح في عمله البسيط طوال يومه فقوته لن يشبع جوعه؛ ومن ثم لن يتغذى جسده إلَّا على ما تبقى في جسمه من خلايا إلى أن يضعف ذلك الجسد وتضيع صحته وقوته بالتدريج.

ولكن هذا البائس المُدْرَج في أكفان النسيان ما زال من بني الإنسان، فما بال الأغنياء لا يبالون برغيف الخبز الذي يطعمونه إياه بل لا يكترثون بانفصالهم عن الاتصال بالله وابتعادهم عنه كلما ابتعدوا بضمائرهم وقلوبهم وعقولهم عن مساندة الفقير ودعمه للتغلب على معاناته.

وبالرغم من هذا التجاهل المتعمد لمعاناة الفقراء والمساكين، من قبل الأثرياء الذين ماتت ضمائرهم، فإنه إذا ما نزلت بساحة أحدهم مصيبة ما؛ تهتز بكل سهولة أقدامهم التي ظنوها ثابتة وقوية، دون أن يلفتهم ذلك إلى الشعور بالمحن التي يكابدها غيرهم من الفقراء والمساكين، فإذا بهم يلحون في طلب الرحمات النازلة من السموات بينما يعرضون عن تقديم المساعدة لأي محتاج رحمة بمن في الأرض!

وهذا هو الفقر المُدقِع في الضمائر والقلوب، فهذا الذي لا يعرف خالقه فيما يأخذه ويحصل عليه من مال، بالقطع لن يعرفه فيما يعطيه وينفقه، بل إنه سيكون أشد خوفًا من الفقر على نفسه وأهله فقط دون أن يخشى منه على أي فقير أو مسكين؛ لأنه قد نسيه ولم تشغله معاناته؛ ومن ثم باتت الأرض تحوي قبور الأموات بلا حراك في بطنها وأكواخ وعشش الأحياء من الفقراء والمساكين على ظهرها. فهل هناك فرق بين موت منسي كموت الغريب الذي يحيا حياة منسية كحياة الفقير وبين الموت الذي يفصل الأحياء عن الأموات، أو بين قبور الموتى وقبور الأحياء ما دامت هناك ضمائر ميتة للأغنياء؟!

بل إن هؤلاء الذين لهم حياة بائسة يعمها الفقر وتحكمها المذلة ويسودها الألم والضعف والمرض لم يتركهم موتى الضمائر يعانون مآسي حياتهم وفقط، بل إن منهم من يتاجر في آمالهم وآلامهم مما يضاعف من معاناتهم ويديم عليهم بؤسهم!

وقليلون فقط هم الناجون من وحولة الشهوات والأقل منهم هم المبرؤون من أسقام الفقر وعاهاته التي من أشدها الاستضعاف والاستهانة والاستخفاف والاستحقار. فإذا ما كان الفقر عن قلة حيلة وضيق في سبل كسب لقمة العيش فهذا الأمر يعالجه المزيد من الكد والكثير من التعلم وطرْق أبواب العمل، أما تعمد إفقار الكثيرين من أجل تكوين ثروات طائلة لفئة محدودة من الناس فهو نوع بذيء من الإفساد في الأرض توجد بذرته من قديم الأزل فيما يُعرَف بالطمع في الاستئثار بالمنافع والاحتكار المؤدي إلى التسلط والطغيان، وهذا النوع من الجرائم لابد من مقاومتها بشراسة ودون هوادة من أجل القضاء عليها، ولكن صعوبة هذا الأمر هو آفة الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها بعدما سُلِب منها كل قدرة على امتلاك زمام أمورها.

وللحديث بقية ..

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock