لقد شهدت مصر خلال القرن العشرين، الكثير من الأحداث السياسية الهامة كما خاضت منطقتنا العربية أكثر من حرب شرسة؛ ومع ذلك كانت الطبيعة تحتل مكانة كبيرة في وجدان الناس وبالأخص الشعراء والمبدعين. وإذا كان الربيع هو الفصل الذي تتفتح فيه الزهور؛ فتبث الأمل في النفوس وترسم على الوجوه ملامح البهجة والسرور، فإنه ليس بالضرورة أن ترتبط الزهور بالمشاعر الجميلة المصاحبة للقاء الأحبة، بل إن رياضها قد تحمل أيضا مع نسماتها ذكريات الفراق والهجر التي تفيض بمشاعر الألم والأنين.
وإذا كانت الحياة تحمل لكل إنسان السعادة تارة والألم تارة أخرى، وما دامت مشاعر الحب والمودة هي النقيض لكل بغض وعداوة؛ فإن الحياة ذاتها كفيلة برسم أجمل معاني السعادة في قلوبنا؛ كي نرى كل جمال تتزين به الطبيعة. وخير وسيلة لتأمل ذلك الجمال هي أغنيات الربيع والزهور وذلك إذا ما قررنا -نحن- أن نفتح أبواب السعادة، وأن نصغي إلى أعذب الألحان والكلمات.
وفي هذا المقال سنكمل جولتنا الخاصة باستعادة أغنيات الربيع والزهور القديمة، لا سيما تلك التي تميز بها النصف الأول من القرن العشرين. والبداية ستكون مع المطربة أسمهان أو آمال الأطرش [1912-1944]، وهي صاحبة واحدة من أجمل الأغاني عن الزهور وجمالها، وهي أغنية يا بدع الورد من كلمات حلمي الحكيم، وألحان شقيقها الموسيقار فريد الأطرش، وكانت في فيلم انتصار الشباب عام 1941.
“يابِدع الورد يا جمال الورد، من سحر الوصف قالوا عالخد الورد الورد يا جماله، الأحمر من بِدعه وجْد وهيام الطف يا لطيف، والأصفر من ريحته غيرة وآلام ارحم يا رئيف، والأبيض ده العفة ريحة وغرام اقطف يا شَريف، رسول العشاق سمير المشتاق، الورد الورد الورد يا جماله، نادي وردك ياخولي نادي، اوعى يجرحك شوكه واسهر عليه، ده بيحبك ياهايم أحسن يئلمك شوقه واعطف عليه، هادي حِبك ياعاشق وردك ينعشك طوقه وقبِّل إيديه، رسول العشاق سمير المشتاق، الورد الورد الورد يا جماله”.
وللمطربة أسمهان أغنية أخرى عن الزهور ولكنها ليست عن وصف جمال الزهور بل هي عبارة عن حكاية لعاشق خانته محبوبته ويصور الشاعر بطلها كبلبل، فيصف حاله ما بين البهجة والسعادة والحزن والعذاب. وهذه الأغنية بعنوان (دخلت مرة في جنينة) من كلمات الشاعر الغنائي عبد العزيز سلام، وألحان الموسيقار مدحت عاصم، وصدرت عام 1940.
وتقول كلماتها: “دخلت مرة في جنينة أشم ريحة الزهور، وأهني نفسي الحزينة وأسمع نشيد الطيور، بصيت لقيت ع الغصون بلبل ويّاه وليفته واقف معاها بسكون، أنا فرحت لما شفته فارد جناحه عليها وبيراعيها بحنان، وهو من حبه فيها غنى لها لحن الأمان، وقال لها يا ملاكي اللي تعوزيه أطلبيه، روحي وعقلي فداكِ .. حبيبك اوعي تسيبيه، وبعد مدة طويلة في شرب كاس الوصال، لقيت حبيبته الجميلة ساقت عليه الدلال، طارت ما سألتش فيه وخلفتله العذاب، مسكين يا روحي عليه قلبه من الوجْد داب، سهر يعد النجوم والبدر شاهد عليه، طالت عليه الهموم وبس يصبر بإيه، واللي كمان زاد عذابه وليفته لافت بغيره، وزودتله مصابُه وساء يا روحي مصيره، خرجت صعبان عليا حالتُه تبكّي الجماد، حفظ ودادها وهيّ خانت عهود الوداد”.
أما المطربة والملحنة اللبنانية لور جورج دقاش المعروفة فنيًّا باسم لور دكاش [1917-2005] فقد بدأت احتراف الفن عام 1929، ثم استقرت في القاهرة منذ عام 1945. ومن أشهر أعمالها في أواخر الثلاثينيات آمنت بالله للملحن اللبناني فريد غصن، أما أول أغنية لها فكانت قصيدة بعنوان طلوع الفجر من كلمات بطرس معوض.
وللزهور غنت لور دكاش أغنية الورد في بهجته من كلمات الشاعر الغنائي محمد علي أحمد وألحان الموسيقار أحمد صدقي. ولها أيضًا أغنية بعنوان كلمني ياورد التي صدرت عام 1960، وكانت من كلماتها وألحانها. أما أغنيتها العاطفية أحب أشوف الزهور فهي من تأليف يوسف بدروس الذي غنت له أيضًا من ألحانها أغنية للربيع بعنوان هبت نسايم الربيع.
https://www.youtube.com/watch?v=P0oOtPCIxUg
وأيضًا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي اشتهرت المطربة فاطمة علي [1922-1989] من خلال الكثير من البرامج والصور الغنائية الإذاعية، وكانت واحدة من المطربات اللواتي قدمن عدة أغنيات للزهور مثل: استعراض اسقي الورد، وأغنية يا ورد الجنينة كلمات فؤاد السيد وألحان مرسي الحريري، وأغنية وردك يا بستاني كلمات عبد اللطيف البسيوني وألحان فريد السنباطي، وأغنية سألت وردة كلمات إدوارد سليمان وألحان أحمد صبرة. كما غنت من كلمات إبراهيم رجب وألحان علي فراج أغنية (ورد الهنا).
أما مطربة التفاؤل والبهجة صاحبة الصوت الدافئ سعاد مكاوي [1928-2008] فقد كانت من أكثر المطربات غناءً للربيع والزهور مثلما غنت أيضًا الكثير من الأغنيات للصباح وأنواره. ومن أشهر أغنياتها للورود أغنية اسقي الورد يا خولي الورد كلمات إبراهيم رفعت وألحان خليل المصري، وأغنية مين قدك يا جنايني كلمات سعد الدين المصري وألحان سليمان فتح الله، وأغنية فراشة بين الزهور، وأغنية هل الربيع الجميل، وأغنية (روايح الجنة) كلمات محمد الحسيني وألحان سيد مصطفى.
والمطربة عائشة حسن [1930-1992] كانت أيضًا من مطربات الإذاعة المصرية خلال هذه الحقبة الزمنية، فبعدما قامت بإعادة تسجيل وتوثيق أغاني رواد الفن الأوائل في الإذاعة بهدف إحياء تراثهم الغنائي غنت الأغاني الخاصة بها من ألحان أشهر الملحنين آنذاك مثل: رياض السنباطي وأحمد صدقي ومحمد فوزي. وللورد أعادت المطربة عائشة حسن غناء طقطوقة ياللى تحب الورد لسيد درويش، كما غنت موشح آه يا ورد. كما شاركت المطرب عباس البليدي في أغنية ورد الأحبة، ولها أيضًا أغنية (يا جمال الأزهار ) أو أنا ليلي ونهاري مشغولة بأزهاري من ألحان الملحن السكندري خليل المصري.
وهناك أيضًا المطربة برلنتي حسن [1932-1959] التي رحلت عن دنيانا وهي في ريعان الشباب، ولكنها غنت أكثر من أغنية للزهور مثل: أغنية يا فل صبَّح عالياسمين، وأغنية أنا عندي الورد بستان، وأغنية ورد الجناينية زوقني يا جنايني، وأغنية الورد فتَّح ألحان عبد الحليم نويرة، وأغنية (أجمل صباح في الوجود صباحك إنت يا ورد) كلمات محمد حلاوة وألحان حسين جنيد.
وبعد هذه الجولة التي امتدت على مدار ثلاث مقالات، فإن كل ما سبق عرضه من أغنيات قديمة عن الورود والزهور والربيع ليس فقط تراثًا غنائيًّا يستحق الخلود أو مجرد أعمال غنائية أبدعها شعراء وملحنون متميزون، وتغنّى بها مطربون ومطربات؛ لن يجود الزمان بمثلهم مرة أخرى، ولكنه أيضًا مرآة لحقبة زمنية مضت ولن تعود.
وإذا كان علينا تأمل هذا التراث من أجل التباهي به والافتخار بكنوزه الفنية الفريدة، فإنه يجب علينا أيضًا العزم على استعادة أمجاد هذه الحقبة من خلال الحفاظ على كل ما يحث على الإبداع في كل المجالات؛ فكل جيل بإمكانه أن يصنع الفن الذي يعبر عنه ويستحق البقاء ما دام يسعى إلى المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية – لا أن يكون مجرد مستهلك لكل ما تنتجه ويُقدَّم إليه بدون أية مشقة منه أو قدرة ذاتية على التمييز بين ما هو طيب وجيد وما هو قبيح ورديء!
ولن يدرك شباب هذا الجيل قيمة كل ما هو قديم وعريق؛ ما دام قد أهمله ولم يعد يلتفت إليه أو يجد فيه ما يجذبه، لا سيما مع تضاؤل الاهتمام بترقية الذوق العام، فبات من السهل على الكثيرين خاصة الشباب الانفصال عن أصولهم والإقبال على ما لا يشبههم أو يعبر عنهم وعن مكوناتهم الأصلية؛ ومن ثم ليس غريبًا أن يتحول غالبيتهم بالتدريج إلى مسخ يقلد ولا يبدع ويفتقد إلى الاستقلالية، بعدما فقد روحه الأصيلة فلا هو يتحدث بلغته، أو يتفرد بثقافته المميزة له، فكيف إذن لهؤلاء أن تكون لهم في المستقبل شخصيتهم الخاصة بهم والتي تلزم الجميع باحترامها وتقديرها وعدم الاستهانة بها؟!