“ليس أشقى ممَّن مُنِع السعادة وأُعطِي الرغبة فيها، إلَّا الذي أُعطِي السعادة ومُنِع اللذة منها!” .. هذه الجملة البليغة للأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي، الذي تُوفي في العاشر من شهر مايو عام 1937، وهو في السابعة والخمسين من عمره، مفادها أن مشاعر السعادة المرتبطة عادة بالماديات الدنيوية والمتمثلة في كل زينة محسوسة، بدايتها هي تَولُّد الرغبة فيها أولًا ثم الحصول عليها ثانيًا، وهو ما تنتج عنه اللذة والمتعة، فإذا ما وقع الحرمان من أيٍّ من زينة الدنيا ولم يتيسر الحصول عليها فسيقع الألم وتحدث التعاسة.
وهذه التعاسة المرتبطة بالمنع والحرمان، وينفيها الحصول على الرغبات وتحقيق المآرب؛ يفوقها شقاء آخر يتولد من استمرار الرغبة فيما هو غير متاح الحصول عليه، ولكن الشقاء الأعظم منه يتمثل في امتناع الإنسان عن الاستمتاع بما حصل عليه وكان من المفترض أن يمنحه السعادة ولكنه فقد نعمة التلذذ به.
إن الضحك هو تعبير عن السعادة والسرور، وطلاقة الوجه وانبساط الأسارير هما من علامات انشراح الصدر، أما انقباض الوجه وعبوسه فهو دلالة على ما تخفيه النفس من هم وغم وحزن وكآبة قد تبوح بها في وقتٍ ما الدموع والعَبرات. ومسألة السعادة هي من المسائل التي شغلت بال الكثيرين من الأدباء والمفكرين قديمًا وحديثًا، وقد تعرض لها الرافعي في كتابه (المساكين) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1917، وفيه أوضح أن السعادة لا يجب أن تكون في حد ذاتها هي مطلب الإنسان، ولكن القدرة على التمتع بها وتلمس أثرها على النفس هو ما يجب أن يكون هو شغله الشاغل.
فكل ما نرغب في الحصول عليه نظن أن فيه سعادتنا، وما أن نُحرَم منه حتى نفقد تلك السعادة، فإذا ما استمرت رغبتنا في الحصول عليه بالرغم من علمنا بأنه ليس لنا فسنظل نحيا في تعاسة وشقاء. وكذلك أية نعمة يحظى بها الإنسان فيضجر منها بدلًا من التلذذ بها فينصرف عن الاستمتاع بما في حوزته تلهفًا وراء الأشياء التي ليست في يديه، هو من وجهة نظر الرافعي أشد وقعًا على النفس من ألم أية مصيبة يتجرعه المرء.
أي أنه متى توفرت الرغبة الفردية في السعادة فستتولد القدرة الذاتية عليها، وهذا يعني أن الابتهاج والسرور بالنسبة للرافعي من الأمور الإرادية؛ ولكن هل حقًّا بمقدور الإنسان أن يتولى أمر سعادته وحزنه بمفرده طوال الوقت؟! وهل كل من يرغب في السعادة – وبالقطع ليس هناك من لا يرغب فيها– بإمكانه أن يحصل عليها وينالها مهما كانت الظروف؟ وهل الإنسان هو من يمنع نفسه عن الشعور بالسعادة؟ أم إن ذلك الأمر قد يكون في كثير من الأحيان خارجًا عن إرادته؟
إن معنى السعادة عند الرافعي يكمن داخل الإنسان المستقبِل للمعاني إذ أنه هو الذي يحدد كيف تستقبلها نفسه، وكيف يتعامل معها، وكيف تؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا. وهكذا يكون الإنسان عند الرافعي كائنًا حرًّا فاعلًا غير مفعول به، فلا تتحكم فيه النعم منعًا أو عطاءً؛ بل هو الذي بمقدوره أن يَخضع لها بكل مذلة، أو أن يتحرر من تسلطها الناتج عن تعلقه هو بها فلا تصبح لها أية سلطة عليه.
والدليل على ذلك أن شعور الإنسان بالضجر لا يختلف كثيرًا سواء بسبب وجود شيء ما أو بسبب عدم وجوده، كما أنه –وفقًا للرافعي– ليس هناك فرق بين عدم شعور الإنسان بالسعادة أو اللذة وبين الشعور بعدم اللذة أو السعادة. فوجود شيء ما من المفترض أن يمنح الشعور بالسعادة لدى البعض؛ قد لا يمنح وجوده نفس القدر من الشعور بالسعادة لدى آخرين. وكذلك الحرمان من شيء ما يظن الإنسان أن فيه سعادته؛ قد لا يمنحه ما يتطلع إليه من السعادة إذا حصل عليه بالفعل، بل إن غيره ممن حُرم نفس الشيء؛ قد لا يفتقد الشعور بالسعادة بسبب ذلك الحرمان؛ ومن ثم إذا حصل على ذلك الشيء في يومٍ ما؛ فلن يكون سببًا في سعادته.
فهذا الغَني الذي لا يشك أحد في سعادته ما دام قادرًا على شراء كل ما يريده، بينما يشك هو أحيانًا في شعوره بالسعادة، ربما يكون لديه ما يجعله يتألم وألمه هذا قد لا يختلف كثيرًا عن ألم الفقير الذي يشكو طوال الوقت من تعاسته. فالأمر إذن لا يتعلق بالسعادة أو بالألم.. بقدر ما يتعلق برد فعل الإنسان تجاه مسببات كل منهما أي تجاه ما يُسعد الإنسان وتجاه ما يسبب له الألم والمعاناة.
ولكن ذلك الإنسان الذي يربط بين وجوده في الحياة، وسعادته فيها وتلذذه واستمتاعه بملذاتها- لن يَقبل بأي شيء سوى سعادته تلك؛ ما دام على قيد الحياة؛ وبالتالي سيكون جبانًا عند لقاء نوازل الحياة وخطوبها وخائفًا من حوادثها وأيامها، ومن ثم متجنبًا لخوض غمارها؛ بل ومُرحبًا بالموت تجنبًا لصفعات الحياة وتقلباتها أو تكبد مشاقها وويلاتها. ولذلك يرى الرافعي أن الأكثر شقاءً وتعاسة ليسوا هم المحرومين من النعم؛ بل هم الضعفاء الخائفون من مواجهة الحياة والمستعدون للهروب منها والتخلي عنها كلية؛ وكأنها عبء ثقيل يريدون التخفف منه في أقرب فرصة ممكنة.
والأشد ضعفًا وهشاشة من هؤلاء الجبناء، هم من يهابون الموت ولا يتقبلون مجرد التفكير فيه. فهؤلاء الذين يخافون الحياة مستعيذين بالموت – ضحوا كلية بأيامهم المقبلة يأسًا وقنوطًا بسبب معاناتهم السابقة، أما من يهابون الموت وفقدان الحياة فقد ضحوا بكل متعة لهم في أيامهم المقبلة بسبب رعبهم المستمر من شبح الموت الخفي والذي ينتظرونه في كل وقت إلى أن وقعوا في شراك عذاب لا ينتهي.
وهكذا يوضح لنا الرافعي أن من يتخلى عن رغبته في أن يكون سعيدًا؛ فيعيش حياة كحياة الأموات، ليس بأقل شقاء ممن يقرر أن يضحى بحياته كلها من أجل الفرار من الألم والشقاء؛ فيتعجل الموت وكأنه يخبِّئ له الراحة والسعادة.
لذلك فإن كل من يترك الحياة كلية؛ دون أن يغنم منها أي شيء (فلم يعد فيها ما يسعده أو يشقيه إلى أن يصاب بفقدان الشعور باللذة أو بالألم، ثم بفقدان العقل بسبب خوفه المستمر من العودة إلى الحياة التي لم يعد فيها أي شيء يسعده) ليس بأقل حماقة من هذا الذي يحرص أشد الحرص على الحياة المادية فيبذل من أجلها وحدها كل ما يملكه من وقت وجهد، إلى أن يستكين لتعلقه المَرضي بها، فلا يرضى عنها بديلًا، ومع ذلك يمنعه حرصه هذا عن الشعور بالسعادة؛ بسبب خوفه من فقدان الحياة، ومن ثم ضياع كل ما يمتلكه فيها وكان هو السبب في سعادته.
إن شجرة الحياة الدنيا، التي تجذب ثمارها اليانعة القاصي والداني؛ بإمكانها أن تغوي بزينتها المغرية وفتنتها المتجددة كل متلهف عليها، وكذلك كل مُعرضٍ عنها؛ ولكن ما أن يذوق الإنسان من ثمارها تلك حتى يقع في شراكها؛ فيظل مفتونًا بها وراغبًا في المزيد منها، ومع كثرة انغماسه في قطف خيراتها يعتريه الظن بدوام سعادته، فإذا به لا يحصل على المزيد من السعادة، بل يحظى بنصيبه الذي لا فرار منه من التعاسة والشقاء! وهكذا تظل كل سعادة في الدنيا ناقصة وغير مكتملة، ومؤقتة وزائلة.
يصور كل إنسان سعادته في ذهنه في صورة شيء ما يحبه ويهواه وتميل إليه نفسه، فإذا كان ذلك الشيء ماديًّا؛ فسيسعد به طالما استمتعت به جوارحه؛ ولكن تلك السعادة تكون مؤقتة وتحدث في البداية فقط ثم مع مرور الوقت يكون الاعتياد الذي يؤدي إلى الملل والرتابة. بينما إذا كان ما يبعث على السعادة أمر روحي؛ فستتعاظم السعادة به بمرور الوقت ولن تنضب يومًا. ومن هنا تبرز أهمية عدم التعلق بالماديات والخضوع لها؛ من أجل منح النفس الفرصة كي تسمو بفطرتها السليمة إلى النزعة الروحانية؛ فتتخلص من الخضوع والاستسلام لشهواتها الحيوانية، وأيضًا من الحرص على الحياة المادية والدنيوية الدونية، وآنذاك فقط لن تخشى النفس من أي فقد ولن ترهب من الموت المادي للجسد.
فالإنسان بالنسبة للرافعي، هو ذلك الكائن الحي الذي يعرف معنى الامتلاك؛ بل ويسعى إليه، وربما يمنحه تحقق ذلك المعنى اكتساب الشعور بالسعادة؛ ولكن في نفس الوقت سيصيبه كل فقد وخسارة وحرمان بالألم والحسرة والحزن والتعاسة. وهذا ما يجعل النفس التي يعتريها الخوف تعاني من الألم، مادامت في غير دار الخلود؛ بينما فطرتها الروحانية لا تعرف سوى الخلود؛ فيظل الإنسان في صراع بين روحه التي لا تعرف الموت، وبين جسده الذي يحرص على الحياة؛ خوفًا من الموت فإذا بالموت يأتيه من كل مكان وما هو بميت.
وما بين حياة الجبناء والضعفاء، التي يحياها الحريصون على الحياة المادية، والمفتونون بزينتها حتى أصبحوا عبيدًا لها؛ فإذا بهم يقبلون المذلة والهوان في سبيل الحفاظ على ما يمتلكونه أو نجحوا في جمعه والحصول عليه، وبين حياة أولئك الذين يضحون بحياتهم، فيخضعون لما يسبب لهم الشقاء والتعاسة دون أدنى مقاومة منهم، إلى أن يصير موت الجبناء الضعفاء هو مصيرهم، الذي خسروا كل شيء طلبًا للوصول إليه، فلم يربحوا أي شيء، ما بين هؤلاء الذين يعيشون حياة الجبناء وهؤلاء الذين يموتون ميتة الجبناء يكثر الحمقى الذين يراهم الرافعي أسوأ من الحمير؛ لأنهم يصنعون من أنفسهم حميرًا ينكرهم الناس، بينما الحمير الذين خُلِقوا حميرًا لا ينكرون بعضهم بعضًا!
فعل حقًّا السعادة ترادف حرية النفس الإنسانية؟ وهل كل إنسان سعيد هو إنسان حر؟! … هذا ما سنجيب عليه في المقال القادم استكمالًا لرؤية الرافعي الفلسفية للسعادة والتي لا يفصلها عن فكرة الإيمان بالبعث والخلود.