إذا كان مفهوم “التسخير” في آيات التنزيل الحكيم، هو مفهوم رئيس يُحدد علاقة الإنسان بالأرض (الطبيعة)؛ وذلك من خلال ارتباط اللفظ في مواقع وروده، في آيات التنزيل الحكيم، ليس فقط بالظواهر الطبيعية في الكون؛ ولكن أيضا بعلاقة الإنسان بهذه “الظواهر”. وإذا كانت “الأرض”، أو “الطبيعة”، هي مجال التدخل الإنساني وموضوع فعله.. فإن في استعمال التنزيل الحكيم تعبير “السُخرة”، للدلالة على هذه العلاقة، ما يؤكد ـ بشكل قوي الدلالة ـ على أن الإنسان هو “القادر”، و”المسئول”، عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه.
وهنا، تتداعى التساؤلات متتالية: لماذا يُسخِّر الله سبحانه وتعالى للإنسان كثيرا من ظواهر هذا الكون؟ وما فائدة إخبار المولى سبحانه لنا بأن هذه الظواهر الطبيعية (الشمس والقمر والليل والنهار.. وغيرها)، هي مُسخَّرة للإنسان؟ وما مغزى هذا الأمر؟ والأهم.. لماذا استخدم التنزيل الحكيم تعبير “سخَّر” دون غيره من المصطلحات، الدالة على ضرورة النظر والتأمل.. وتدبر القرآن الكريم وآياته البينات؟
تعبير “سَخَرَ”
في محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، وغيرها كثير، لنا أن نقترب بداية لما تشير إليه لفظة “سخَّر”، من معانٍ. ففي “لسان العرب”، يقول ابن منظور: “سخر منه وبه: هزئ به.. وسُخْرَةٌ: يُسْخَرُ منه.. ورجل سُخَرَةٌ: يسخر بالناس، أو يسخر من الناس”، ثم يُضيف: “وسَخَّرَهُ تسخيرًا: كلفه عملًا بلا أُجرة”؛ ولم يختلف الأمر كثيرًا في “القاموس المحيط”، حيث أضاف الفيروز آبادي: “سَخَّرَهُ تسخيرًا: ذلّـله وكلفه عملًا بلا أُجرة”.
أما ابن فارس، فيذكر في “معجم مقاييس اللغة” أن: “السين والخاء والراء أصل مطّرد مستقيم، يدل على احتقار واستذلال؛ من ذلك قولنا سَخَّر الله عز وجل الشيء: إذا ذلّـله لأمره وإرادته. قال جل ثناؤه: ”وسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّموَاتِ والْأَرْضِ“.. ويُقال رجل سُخْرة: يُسَخَّر في العمل، وسُخْرة أيضًا: إذا كان يسخر منه”.
وهنا، نلتقي بأولى ملامح مفهوم “التسخير”، إنها: “تذليل الشيء وجعله مضطردًا في حركته”. ومن ثم، تكون أولى خطوات تدبر هذا المصطلح في التنزيل الحكيم، هي محاولة وضع اليد على دلالة التسخير، كمصطلح وكمفهوم، وأهميته بالنسبة إلى الإنسان، من حيث كونه مُستخلفًا في الأرض لإعمارها.
وهنا أيضا لنا أن نلاحظ أن لفظ “سخر” ومشتقاته قد ورد في آيات التنزيل الحكيم “42” مرة، منها ستة عشر مرة بدون تشديد حرف الخاء “سَخَرَ”؛ أما المرات الباقية، وهي ست وعشرون مرة، فقد ورد اللفظ فيها متضمنًا تشديدًا لحرف الخاء “سَخَّرَ”.
من حيث لفظ “سَخَرَ”، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ” [الحجرات:11]. وكما يبدو، فإن لفظ سخر، الذي يؤشر إلى الاستهزاء، يأتي ضمن ثلاثية “السخرية، اللمز، والنبز”، التي نهى الله عزَّ وجل المؤمنين عنها؛ وهي ثلاثية تأتي كل منها دون التي تسبقها. إذ، إن السخرية هي الاستهزاء بـ”شخص” في وجوده، واللمز هو سخرية في غيابه، أما النبز فهو إضافة صفة إلى الشخص توجب بغضه وتحط من منزلته.
أيضًا، يأتي قوله سبحانه، الذي ورد مرتين بالألفاظ نفسها، في سورتين مختلفتين: “وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون” [الأنبياء: 41؛ الأنعام: 10]. وهنا، يبدو بوضوح أن ثمة فارقًا بين السخرية والاستهزاء، من حيث نسبة الفعل؛ فـ”السخرية” هو فعل منسوب إلى فاعله، مثل ما يدل عليه التعبير القرآني “سَخِرُوا مِنْهُمْ”؛ أما “الاستهزاء”، فهو فعل منسوب إلى المستهزئ به، كما يدل عليه سياق الآية “اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ”.
وكذلك، يأتي قوله تعالى عن نوح عليه السلام، وقومه، الذي ورد فيه لفظ “سَخَرَ” في مرات أربع: “وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ” [هود: 38]؛ وهو يؤكد ما أشرنا إليه من أن “سَخَرَ” فعل منسوب إلى فاعله، أي الشخص الذي يقوم بالسخرية.
مصطلح “سَخَّرَ”
أما بالنسبة إلى مصطلح “سَخَّرَ”، بتشديد حرف الخاء، فقد ورد في التنزيل الحكيم ست وعشرون مرة؛ وفي كل هذه المرات، يأتي المصطلح متواكبًا مع الظواهر الطبيعية، مثل الشمس والقمر والليل والنهار.. وغيرها.
بل، إن الأمر الجدير بالتأمل والانتباه، في آن، أن مصطلح سَخَّرَ ورد مرتبطًا بـ”مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، للدلالة على أن ما في الكون من موجودات ليست مستقلة عن الإنسان ووجوده؛ فهو، أي الكون، بكل “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، لم يوجد إلا من أجل الإنسان، الذي جعله سبحانه وتعالى “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30].
وقد جاء هذا الارتباط، في آيتين من آيات التنزيل الحكيم..
الآية الأولى، هي قوله سبحانه: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13]؛ وكما هو واضح من سياق الآية، يبدو التأكيد على أن كل “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ” قد سخره الله سبحانه وتعالى لخلقه من الناس، وهو ما يدل عليه مفتتح الآية: “وَسَخَّرَ لَكُمْ”، كما يدل عليه تعبير “جَمِيعًا”.. أما “مِنْهُ” فهي تقع في موقع “الحال”، بمعنى أنه سبحانه وتعالى سَخَّرَ هذه الأشياء والظواهر كائنة منه وحاصلة من عنده؛ فهو مكونها وموجدها بقدرته وحكمته، ثم مُسَخِّرِها لخلقه.
ثم، لنا أن نتأمل ختام الآية، الذي يأتي للدلالة على أن تسخير هذه الأشياء والظواهر للناس، إنما يتضمن -في ذاته- دافعًا إلى ضرورة “التفكر” في كنه ودوافع هذا التسخير الإلهي لما في السموات والأرض؛ من حيث: “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.
أما الآية الثانية، فهي قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20]. وكما يبدو في الآية، كما في سابقتها [الجاثية: 13]؛ يأتي التأكيد على أن “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، قد سَخَّرّهُ الله سبحانه وتعالى للناس بدليل التأكيد الوارد في الآية “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ”.
أضف إلى ذلك، أن مفتتح الآية يؤشر إلى طلب الاستدلال من الناس “أَلَمْ تَرَوْا”، على أن هذا التسخير هو لمصلحة الإنسان، خاصة أن سياق الآية يؤكد أن التسخير يرد مترابطًا مع نعم الله سبحانه وتعالى، وذلك عبر صيغة العطف “أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ… وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ…”. بل، وإن هذا الاستدلال يتطلب تدبرًا وتأملًا عبر “الرؤية” التي جاءت في أول الآية؛ إذ إن الخطاب في “أَلَمْ تَرَوْا” يأتي موجهًا للكل، ومؤكدًا على ضرورة هذه “الرؤية”.
ويبقى التساؤل: ما هو مفهوم “سَخَّرَ” الذي يرد كمصطلح قرآني في آيات التنزيل الحكيم؟
للحديث بقية.