أسهمت التحولات الراهنة التي طرأت على دول الجوار الإقليمي للجزائر، إلى تعرُّض دوائرها الجيوسياسية لتحديات أمنية، أهمها تلك التي تتمثل في تنامي التهديدات المرتبطة بالإرهاب، والجريمة المنظمة، وانتشار الأسلحة وغيرها، أضف إلى ذلك انهيار الدولة في ليبيا، وصعوبة إعادة الاستقرار إلى مالي، وطول المرحلة الانتقالية في تونس؛ فضلا عن قضية الصحراء الغربية، والمشكلات المثارة مع المغرب بشأنها، مع تنامي الوجود العسكري الأجنبي الفرنسي، في الساحل الأفريقي.
وبالتالي، تجد الجزائر نفسها مرتبطة أمنيا بعدة دوائر إقليمية غير مستقرة، تأتي الأزمة في ليبيا في مقدمتها؛ بما يعني إمكانية تعرضها لعديد من المخاطر، من شأنها أن تُهدد استقرارها وأمنها القومي.
أدى تدهور الوضع الليبي، وانفتاح جبهة الصراع الداخلي المسلح، إلى انتشار السلاح على الحدود الليبية بالقرب من الجزائر، بالإضافة إلى بروز جماعات العنف والتنظيمات الإرهابية، وما تُمثله من تهديد واضح للأمن الوطني الجزائري. هذا فضلا عن حالات النزوح والهجرة للمواطنين الليبيين إلى الجزائر، وغيرها من دول الجوار الليبي.
وبالتالي، يُمثل استمرار الأزمة الليبية مزيدا من الضغوط على الدولة الجزائرية، ليس فقط من المنظور الأمني والسياسي؛ ولكن أيضا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.. فقد برز بشكل واضح، مدى ما يسببه تمدد المكونات الاجتماعيىة القبلية بين ليبيا والجزائر من إشكاليات، كما في حال قبائل الطوارق؛ حيث تبدّت خطورة حركة تحرير أزواد، في شمال مالي، والتي تُعد حركة انفصالية عمادها من الطوارق؛ وهو ما يعني إمكانية بروز مطالبات بالتوسع الانفصالي للطوارق في الداخل الجزائري.
أضف إلى ذلك، أن تنامي خطر تفكيك الدولة الليبية، وتقسيمها وفقا لسيناريوهات متعددة، كمشروع “الفدرلة” عبر تقسيم الدولة إلى ثلاثة أقاليم “برقة، طرابلس، فزان”، يُساهم في إذكاء النزعات العرقية ومخططات التقسيم والحركات الانفصالية في عموم منطقة المغرب العربي، وبصفة خاصة الجزائر.
إذ تصاعدت من جديد الأصوات التي تنادي بعودة الفيدرالية إلى ليبيا، والرجوع إلى دستور 1951، الفيدرالي وذلك اعتمادا على مجموعة دوافع، منها صعوبة إجراء الانتخابات في ظل وجود حكومتين، والتداخل بين الداخلي والخارجي في الأزمة، إضافة إلى مبادرة القاهرة للسلام، التي ساهمت في إلقاء الضوء مجددا على فكرة عودة النظام الفيدرالي إلى البلاد.
لذلك، مع زيادة حدة الأزمة الليبية واستمرارها؛ اتخذت الدولة الجزائرية عدة إجراءات أمنية ودفاعية لمحاولة تسوية الأزمة، والحد من تداعياتها على الأمن القومي الجزائري؛ من أهمها: تأمين وضبط الحدود، ورفع حجم الميزانية العسكرية والإنفاق على التسليح، بالإضافة إلى وضع آليات لمكافحة الهجرة غير الشرعية، والمتاجرة في السلاح وغيره.
في الوقت الذي احتل فيه الملف الليبي صدارة أولويات السياسة الخارجية الجزائرية، خاصة منذ وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سُدة الحكم؛ فقد تمثلت محصلة شبكة العلاقات الجزائرية بمختلف القوى الناشطة على الساحة الليبية، في محاولة بناء توازن يرتكن في شقه السياسي، على استمرار دعم حكومات طرابلس، حكومة الوفاق التي ترأّسها فائز السراج، ومن بعدها حكومة الوحدة التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة؛ لكن مع محاولة إنهاء القطيعة مع شرق ليبيا.
كما يرتكز في شقه العسكري على الامتناع عن تقديم الدعم العسكري المباشر لميليشيات غرب ليبيا، مع صرف النظر عما تمارسه تركيا ودول أخرى -في هذا المجال- لخلق توازن ميداني مع الجيش الوطني الليبي، الذي يقوده خليفة حفتر؛ لتكتفي الجزائر بتصريحات متكررة عن رفضها كافة أشكال التدخل العسكري الخارجي في ليبيا.. وهو ما يمكن تأويله على أكثر من وجه.
واللافت، أن المُقاربة الجزائرية في التعامل مع الأزمة الليبية، قد تبدّت من خلال عدة مؤشرات؛ تدل في ذاتها على التغير الذي انتاب الموقف الجزائري، عبر عدة مراحل متتالية.. ما بين الغموض، والحدة في التعامل مع أطراف الأزمة.
فلقد ظل الموقف الدبلوماسي الجزائري لمدة تُقارب السنوات الثلاث غامضا، إزاء الأزمة الليبية، واتسم بالتردد والارتباك بعد سقوط نظام القذافي، إلى عام 2014، لكن مع تزايد الانقسام السياسي الليبي، والذي تحوّل إلى صراع عسكري بين الجيش الوطني الليبي، الذي يقوده خليفة حفتر، والذي أطلق عملية الكرامة، وحكومة الوفاق التي كان يترأسها فائز السراج، والتي أطلقت عملية “فجر ليبيا” – بدأ يتبلور الموقف الدبلوماسي الجزائري بوضوح.
فقد دعت الجزائر -بداية- إلى المقاربة السياسية السلمية في حل الأزمة، ورفض التدخل الأجنبي، ولاسيما العسكري، الذي أدّى إلى المزيد من الانقسام السياسي بين الأفرقاء الليبيين. إلا أنه -مع مرور السنوات- تمكّنت الجزائر من بلورة رؤية واضحة حول الأزمة الليبية.
ففي سياق تقدير الجزائر لتوازنات القوى في الصراع الليبي، لا يمكن تجاهل عدد من الدوافع في مدركات صانع القرار الجزائري، إلى جانب الدوافع الأمنية والجيوسياسية؛ ويأتي في مقدمتها الدافع الاقتصادي، الذي ساهم في عدم اتخاذ الجزائر مواقف حدِّية تجاه أطراف الصراع، سواء الأطراف الداخلية، أو الأطراف الخارجية المتدخلة في الصراع.
فمن حيث إن الجزائر تحظى بعلاقات اقتصادية جيدة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، كمثال، لا تقل أهميتها عن علاقاتها مع تركيا، كمثال آخر، لا يعني سوى أن اتخاذ الجزائر موقفًا حديًا على صعيد أطراف الصراع المحلية، هو بمنزلة اتخاذ موقف على صعيد القوى الإقليمية، والدولية، المتدخلة.
أضف إلى ذلك، تحول ليبيا إلى حلبة صراع بين القوى الإقليمية والدولية؛ حيث إن تتابع التدخلات العسكرية من قبل قوى دولية متعددة، مثل فرنسا وروسيا وتركيا، وما يصاحب هذه التدخلات من إرسال مقاتلين، غير نظاميين، مثل قوات فاغنر الروسية، والمقاتلين السوريين الذين نقلتهم تركيا لدعم القوات الموالية لحكومة الوفاق الليبية، ومن بعدها حكومة الوحدة الوطنية، له تداعيات سلبية على الأمن القومي للجزائر.
أيضا، تمركز وتأسيس وتطوير قواعد عسكرية من قِبل دول عدة، مثل تركيا وفرنسا والإمارات، وما تواكب مع ذلك من إرسال خبراء عسكريين من هذه الدول، إلى الداخل الليبي؛ كل هذا ساهم في تحول ليبيا إلى ساحة تتصارع فيها القوى الدولية والإقليمية، وهو ما يعني تزايد التهديد الأمني للجزائر، من منظور أن ليبيا تُمثل عمقًا حيويًا واستراتيجيًا للدولة الجزائرية، وما يحدث بداخلها يرتبط بمصالح الجزائر وأمنها القومي بشكل مباشر.