رغم نفي مصدر مسئول بالجيش الليبي، أي اتجاه لإبرام اتفاق من أي نوع مع روسيا، لمنحها قاعدة عسكرية شرق البلاد؛ إلا أن التقرير الذي نشرته وكالة “بلومبرغ” الأمريكية، في نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر، ساهم في إثارة الجدل بشأن القاعدة الروسية، خاصة أن التقرير قد أشار إلى “احتمال حصول السفن الحربية الروسية أيضا على حق الرسو الدائم في ميناء ليبي، على الأرجح في ميناء طبرق”؛ بما يعني أن السفن الحربية الروسية، ستكون على بعد بضع مئات من الكيلومترات، عبر البحر المتوسط، من إيطاليا واليونان؛ وهو ما يُمكن أن يُمثل تحديا مباشرا للولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها الأوروبيين.
تتعدد العوامل وراء تصاعد الجدل بشأن القاعدة الروسية في شرق ليبيا، خاصة بعد تقرير بلومبرغ الأمريكية، الذي أشارت فيه إلى ما أسمته “تفاصيل اتفاق دفاعي بين روسيا والقائد العسكري الليبي خليفة حفتر”.
ولعل أهم هذه العوامل، يبدو كما يلي:
أولًا: حرب القواعد العسكرية الأجنبية في ليبيا؛ وهو العامل الرئيس في تصاعد حدة الجدل بشأن القاعدة العسكرية الروسية، وغيرها من القواعد؛ حيث تجري على الأرض الليبية ما يُمكن تسميته بـ”حرب القواعد العسكرية”. فمن ميناء الخُمس إلى فزان، تتصاعد حدة هذه “الحرب”، وتتصاعدة معها حدة التنافس على المميزات الجيواستراتيجية للموقع الليبي في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا، فضلا عن التنافس على الموارد التي تمتلكها هذه الدولة العربية.
وفضلا عن الولايات المتحدة، التي يبدو أنها قامت بتسليم الملف الليبي إلى إيطاليا بدلًا من فرنسا؛ تمتلك تركيا حشدًا عسكريًا متزايدًا في قاعدة عقبة بن نافع، بمنطقة الوطية الليبية، سعيًا منها إلى وضع نقطة ارتكاز تمنحها الأفضلية في شمال أفريقيا، وذلك على غرار الدور الذي تلعبه القاعدة الأمريكية “إنجرليك” على الأراضي التركية.
هذا، إضافة إلى اللاعب الجديد القديم، فرنسا، التي تحاول الدخول على خط المنافسة، حيث تُريد أن تُقيم قاعدة في فزان، تكون منطلقًا لها للقيام بعمليات عسكرية في منطقة الصحراء الكبرى الأفريقية، وفي دول الساحل الأفريقي، خاصة تلك التي تمردت على التواجد الفرنسي داخلها.
ومن ثم، يأتي الشرق الليبي، الذي يُسيطر عليه الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، صاحب العلاقات المميزة والمتميزة مع روسيا، ونفوذها خاصة في قاعدتي القرضابية الجوية وسرت البحرية، ليُضيف بعدا آخر إلى حرب القواعد هذه.
ثانيًا: أهمية ليبيا الجيواستراتيجية في جنوب أوروبا؛ حيث تُشكل ليبيا دولة ذات أهمية كبرى بالنسبة للكثير من القوى الدولية، خاصة الدول الأوروبية؛ فهي تتمتع بأهمية جيواستراتيجية بالنسبة إلى الأمن الإقليمي الأوروبي، خاصة أن مئات الآلاف من المهاجرين صوب الشواطئ الأوروبية تتحرك عبر السواحل الليبية؛ فضلًا عن أن بعض جماعات العنف والإرهاب، مثل داعش والقاعدة، تتخذ من ليبيا ملاذًا آمنًا لها.
وبالتالي، يُمثل شرق ليبيا فرصة ذهبية إلى روسيا لجعلها منطقة نفوذ في منطقة جنوب أوروبا؛ عبر التحكم في ملفين استراتيجيين بالنسبة لأوروبا، الطاقة والمهاجرين، حيث سيكون بإمكان الروس الضغط على دول الاتحاد الأوروبي، من خلال هذين الملفين، في مواجهة ملفات أُخرى مثل جزيرة القرم، والعقوبات المفروضة على روسيا بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
ثالثًا: إعادة ترسيخ التواجد الروسي في ليبيا؛ حيث تتطلع موسكو إلى تحقيق تقدم في ترسيخ التواجد في ليبيا، بشكل يتجاوز مسألة الدعم التقليدي للمشير خليفة حفتر في شرق ليبيا، إلى الحصول على موطئ قدم لها على سواحل البحر الأبيض المتوسط، على عتبة أوروبا الجنوبية؛ حيث لا تمتلك روسيا في منطقة المتوسط الاستراتيجية، سوى قاعدة بحرية واحدة في طرطوس السورية.
ورغم أن روسيا تستحوذ على قاعدة القرضابية الجوية، وعلى ميناء في مدينة سرت تحاول أن تجعل منه مرفأ لغواصاتها؛ إلا أن منفذًا بحريًا على سواحل البحر المتوسط في شرق ليبيا، يُمثل بعدًا استراتيجيًا بالنسبة إلى روسيا، على الأقل من منظور إمكانيات الضغط على أوروبا في أكثر من ملف، مثل الطاقة واللاجئين غير الشرعيين.
أضف إلى ذلك، أن هذه المحاولة الروسية تتم استنادًا إلى قلق الجيش الليبي من الأنباء المتواترة حول تجهيز الرئيس التشادي، محمد إدريس ديبي، لقوات كبيرة مدعومة فرنسيًا، لمهاجمة المعارضة التشادية المتحالفة مع فاغنر الروسية في جنوب ليبيا؛ وذلك في محاولة لرد الاعتبار تجاه ما قامت به هذه المعارضة، من هجوم على تشاد، في أبريل 2021، أدى إلى مقتل رئيس تشاد السابق إدريس ديبي.
رابعًا: التنافس الروسي مع واشنطن في منطقة المتوسط؛ إذ، إن تنامي النشاطات العسكرية الروسية في منطقة المتوسط، على محور طرطوس طبرق، يُشكل تهديدًا وتحديًا ضاغطًا بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها من الأوروبيين؛ خاصة في ظل المواجهة والتنافس على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة إلى زيادة المخاوف من أن تلعب روسيا دورًا أكبر، في حال توسع الصراع في الشرق الأوسط، بفعل الحرب في غزة.
ولعل ذلك ما يتبدى بوضوح، من خلال تصريحات جوناثان وينر، المبعوث الأمريكي السابق إلى ليبيا، الواردة عبر تقرير الوكالة الأمريكية، بلومبرغ، والتي أشار فيها إلى أن “الإدارة الأمريكية تأخذ هذا التهديد على محمل الجد”؛ مؤكدًا على أن “إبقاء روسيا خارج البحر المتوسط، كان هدفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة”، ولافتًا إلى أنه في حال تواجد روسيا على سواحل المتوسط، فإن ذلك “يمنحها القدرة على التجسس على الاتحاد الأوروبي بأكمله”.
خامسًا: ما يتمتع به شرق ليبيا من إمكانات نفطية؛ فمن الواضح أن أحد استهدافات حفتر، من زيارته إلى موسكو، ولقائه بالرئيس الروسي، أواخر سبتمبر الماضي، كان البحث عن أنظمة دفاع جوي لحماية وحدات الجيش الليبي، من القوات والميليشيات المنافسة لها في غرب ليبيا، تلك التي يدعمها الجيش التركي؛ فضلًا عما تردد من طلبه تدريب روسيا لطياري القوات الجوية والقوات الخاصة.
وفي المُقابل، يبدو أن المطروح روسيًا هو تحديث عددِ من القواعد الجوية، التي تتمركز فيها قوات فاغنر، لتكون قادرة على استضافة القوات الروسية. إلا أن الأمر، بالنسبة إلى روسيا، لا يتوقف عند هذه الحدود؛ ولكنه يتجاوز ذلك إلى التركيز على النفط الليبي. إذ، تُعطي روسيا اهتمامًا كبيرًا لليبيا، كونها تمتلك 46.4 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد، وهو الأكبر في أفريقيا والعاشر عالميًا. وعبر مجموعة فاغنر، التي كان يقودها يفغيني بريغوزين، قبل الإعلان عن مصرعه في حادث تحطم طائرة روسية، تمتلك موسكو إمكانية الوصول إلى منشآت النفط الرئيسة في ليبيا؛ خاصة أن الجيش الليبي يُسيطر على العديد من هذه المنشآت.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن تصاعد الجدل بشأن القاعدة العسكرية الروسية، في شرق ليبيا، إنما يأتي على خلفية عديد من العوامل، التي تتقاطع عند نقطة رئيسة تتعلق بالصراع الدولي القائم حول ليبيا، من جانب القوى الدولية الكبرى؛ حيث إن الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين، لا يمكنهم صرف النظر عن التحدي الذي يُمثله التواجد العسكري الروسي على سواحل المتوسط، والتمدد الذي يبتغيه صانع القرار الروسي على محور طرطوس السورية طبرق الليبية.