بحسب وثيقة مُسرّبة منسوبة إلى الجمعية المهنية للمصارف والمؤسسات المالية الجزائرية، أصبح الإغلاق بين الجزائر والمغرب شاملًا؛ خاصة أن هذه الوثيقة، أو ما أُطلق عليها “البرقية 29″، تقضي بـ”رفض أي عملية توطين لعقود النقل، التي تنص على إعادة الشحن أو العبور عبر الموانئ المغربية”؛ بما يعني حظر أي عمليات تجارية عبر هذه الموانئ، بالشحن أو بالعبور.
هذه الخطوة التصعيدية، تأتي في إطار “الضربات المتبادلة”، بين الجارتين العربيتين، والتنافس على النفوذ بينهما، للسيطرة على التجارة في المنطقة، وذلك بعد أن تطور هذا التنافس، إلى مرحلة المواجهة والصراع.
احتمالات متوقعة
تتعدد الاحتمالات المستقبلية، حول الخلافات المتصاعدة بين الجزائر والمغرب، بخصوص التنافس على النفوذ بينهما.. تلك التي يتمثل أهمها في ما يلي:
من جانب، تنامي التنافس على صدارة الموانئ في غرب أفريقيا؛ إذ بحسب البنك الدولي، فإن نسبة 80 % من تجارة السلع العالمية، من حيث الحجم، تنقل عن طريق البحر؛ ويشحن أكثر من 60 % من الشحنات ذات القيمة التجارية في حاويات، بما يعكس الأهمية الحيوية للموانئ وتنامي دورها في سلاسل التجارة العالمية.
وكما يبدو، يوضح ذلك ما يمكن تسميته “صراع الموانئ”، بين الجزائر والمغرب؛ حيث أعلن الأخير، مع بداية العام الجاري، عن مشروع توسعة جديدة للميناء المغربي الأضخم، ميناء طنجة المتوسط؛ هذا فضلا عن تطوير 14 ميناء آخرين، وجعلها مفتوحة أمام التجارة الدولية، بما يؤمن للمغرب حوالي 96 % من عمليات التصدير والتوريد إلى المملكة.
أما الجزائر، فقد حددت عام 2030 موعدا لبدء المنافسة على التموضع، ضمن أهم 30 ميناء في العالم؛ عندما تنتهي أشغال ميناء الحمدانية شرشال، غرب الجزائر العاصمة؛ وهو الميناء الذي تطمح الدولة الجزائرية بتحويله إلى “قاعدة بحرية”، تمكنها من السيطرة على التجارة في منطقتي غرب أفريقيا والساحل الأفريقي.
من جانب آخر، استمرار التنافس للسيطرة على التجارة البحرية؛ فإضافة إلى التأكيد الجزائري على عدم التراجع، عن قرار منع دخول البضائع التي يُعاد شحنها من الموانئ المغربية؛ بل والتأكيد مؤخرًا، في 5 فبراير الجاري، على سريان قرار “رفض استقبال البواخر التجارية القادمة عبر الموانئ المغربية”؛ فإن هذه الخطوة التصعيدية، تأتي للدلالة على مدى التنافس بين الجانبين، لأجل السيطرة على التجارة البحرية؛ من حيث أهمية الموانئ كإحدى أهم الأدوات الاستراتيجية لتحقيق هذه السيطرة.
فالمغرب من جانبه، يطمح للسيطرة على أهم محاور التجارة البحرية الدولية، عبر أكثر من وسيلة؛ من بينها: إنشاء المزيد من الموانئ وتطويرها مثل ميناء طنجة المتوسط، الذي يُعد أكثر ميناء تمر من خلاله عمليات الشحن، التي توجه إلى الجزائر. ومن بينها أيضا: “المبادرة الأطلسية” التي أطلقها ملك المغرب محمد السادس، في ديسمبر الماضي، 2023، لربط دول جنوب الصحراء بالمحيط الأطلسي، واستجابت لها دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.
أما الجزائر فهي من جانبها، تقود مع حليفتها موريتانيا مشروعا في مواجهة المبادرة المغربية، في محاولة منها للسيطرة على التجارة في دول الساحل الأفريقي، عبر تعزيز دخول دولها إلى ساحل الأطلسي عبر ميناء نواكشوط في موريتانيا؛ وذلك بالتوازي مع بدء التحضير لإنشاء منطقة تبادل تجاري حر بين الجزائر وموريتانيا.
من جانب أخير، استمرار التصارع على منطقة الساحل الأفريقي؛ حيث تجاوزت دول هذه المنطقة، وضعية الهاجس الأمني بين الجزائر والمغرب؛ لتصل إلى درجة أكبر من الفاعلية في إطار التصارع بينهما. فهذه المنطقة، وهي إحدى أخطر المناطق في العالم، من حيث نشاطات الجماعات الإرهابية، أصبحت عمقا استراتيجيا لكل منهما، من المنظور الاقتصادي.
فإضافة إلى ما تمثله منطقة الساحل الأفريقي، من مسرح جيوسياسي بين الأقطاب الدولية، الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى؛ فقد أصبحت محلا للتنافس الجزائري المغربي، السياسي والاقتصادي، من حيث ما تتسم به من سوق تضم ما يزيد على “رُبع” مليار نسمة، بين 250-300 مليون نسمة؛ فضلا عن الناتج المحلي الإجمالي لدول الساحل الأربع مجتمعة، تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي، الذي يصل إلى حوالي 35 مليار دولار.
أيضا، يصل التصارع بين الجارين المغاربيين، إلى دول غرب أفريقيا، التي تُمثل سوقا واعدة بالنسبة إلى كليهما؛ سواء بالنسبة إلى الجزائر، التي تحاول تحقيق سياسة تهدف إلى تحرير الاقتصاد، من الاعتماد على النفط والغاز؛ أو بالنسبة إلى المغرب، الذي يستهدف تعزيز الحضور في غرب أفريقيا، من خلال إقامة العديد من الشراكات والاتفاقيات، والاستثمارات في قطاعات المصارف والمعادن والخدمات.
تداعيات اقتصادية
ضمن أهم التداعيات على التصعيد المتبادل بين الجارين المغاربيين- هو ذلك المتمثل في انهيار التبادلات التجارية والمعاملات الاقتصادية؛ إذ يأتي هذا الانهيار على رأس تداعيات إجراء “الحظر” الذي قررته الجزائر على دخول البضائع التي يُعاد شحنها من الموانئ المغربية. وبالرغم من أن قيمة التبادل التجاري بين الجزائر والمغرب، كانت قد تراجعت لما يُقارب 70 % خلال العام الماضي، 2023؛ إلا أن الحظر الجزائري أدى إلى الانهيار التام لهذا التبادل التجاري بينهما.
ولعل المثال الواضح، على هذا التراجع والانهيار، هو واردات المغرب من الغاز الجزائري؛ حيث كانت الرباط تتحصل على نسبة من هذا الغاز، في مقابل مرور خط الغاز عبر أراضيها نحو أوروبا؛ وذلك قبل أن تُقرر الجزائر عدم تجديد التعاقد بينهما، في أكتوبر من عام 2021؛ ما أدى إلى استغلال الرباط للجزء الواقع في أراضيها من أنبوب الغاز، لإجراء عملية عكسية لاستيراد الغاز، أي الحصول على احتياجاتها من الغاز من الأسواق العالمية عبر أوروبا، وتحديدًا عبر إسبانيا.
أضف إلى ذلك أيضا ضمن التداعيات، التوتر المتصاعد بينهما في اتجاه العمق الأفريقي، خاصة في ما يتعلق بالتنافس حول الغاز النيجيري؛ الذي يُساهم في تمديد التنافس بين البلدين الجارين. إذ يمثل أنبوب الغاز الجزائري “العابر للصحراء”، وأنبوب الغاز “الرباط – أبوجا”، من المنظور السياسي، والجيوسياسي أيضًا، محاولة “مغاربية” في التحرك صوب العمق الأفريقي، للحصول على الغاز النيجيري وتوصيله إلى أوروبا.
تصادم سياسي
في هذا السياق، يُمكن القول بأن توتر العلاقات المتواصل بين الجزائر والمغرب، ساعد على إنهاء فرص التصالح والتعاون بينهما، وامتداد التأثير إلى مناطق الجوار الإقليمي لهما معًا. وكما يبدو، فإن الخلاف الجزائري المغربي، والذي تأتي “حرب الموانئ” أحد تجلياته، هو خلاف مفتوح على مختلف السيناريوهات المستقبلية.
فهذا الخلاف هو نتاج أكثر من نصف قرن، من التوترات والتناحرات، وتبادل الاتهامات الخطيرة، منذ حرب الرمال بينهما، في أكتوبر 1963؛ وما تلاها من صراع حول قضية الصحراء الغربية، قبل أن يتحول هذا الصراع أخيرا إلى عداء واضح.
ومن ثم، يبدو أن “التصادم السياسي” بين الجزائر والمغرب، تصادم حول صراع النفوذ بينهما، والتنافس على من يتبوأ مكانة “الدولة المحورية” في منطقة شمال أفريقيا وغربها، في آن.