في الحديث حول “دلالة الاجتباء الإلهي للرسل”، وصلنا إلى أن علم “ٱلۡغَيۡبِ”، هو اختصاص إلهي محض؛ إذ يقول المولى عزَّ وجل في سورة “الأنعام”: “وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ…” [الأنعام: 59]؛ وأيضا، يقول عزَّ من قائل: “قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ” [النمل: 65].
ومثلما أوضح الله تبارك وتعالى أن الملائكة لا يعلمون “ٱلۡغَيۡبِ”، كما ورد في سورة “البقرة”، في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30].. فقد بيَّن كذلك أن الجن لا يعلمون “ٱلۡغَيۡبِ”، وذلك من خلال قصة وفاة النبي سليمان عليه السلام، كما وردت في سورة “سبإ”، في قوله تعالى: “فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ” [سبإ: 14].
وبالرغم من أن علم “ٱلۡغَيۡبِ” هو اختصاص إلهي محض؛ إلا أن الله تبارك وتعالى يُخبرنا، عبر آياته البينات، بأنه “يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ”، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٞ” [آل عمران: 179].
وإضافة إلى قصة العبد الصالح مع نبي الله موسى عليه السلام، التي وردت في سورة “الكهف”، مثالا على “دلالة الاجتباء الإلهي للرسل”؛ فإن ثمة أمثلة مُتعددة في آيات التنزيل الحكيم، على هذا الاجتباء الإلهي، في إطلاعهم على “بعض” من علم الغيب، من خلال “الوحي”؛ ومنهم -بالطبع- النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام.
ويتضح ذلك بجلاء، في قوله سبحانه: “ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ” [آل عمران: 44]. وأيضا، في قوله تعالى: “ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۖ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ أَجۡمَعُوٓاْ أَمۡرَهُمۡ وَهُمۡ يَمۡكُرُونَ” [يوسف: 102].
وقد ورد في الذِكر الحكيم إخبار النبي بالغيب في غير مرة، عن طريق آيات قرآنية تُملى عليه وَحْيًا؛ منها مثلا، ما ورد في سورة الفتح، حيث صدَّق الوحي على رؤيا النبي بالعودة إلى مكة والطواف بالبيت العتيق مع أصحابه؛ وذلك كما في قوله تبارك وتعالى: “لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا” [الفتح: 27].
صحيح أن الله تبارك وتعالى في قوله سبحانه: “مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ” [المائدة: 99]، يوضح لنبيه أن دوره باعتباره مبعوثا للناس هو البلاغ فقط، والله هو من يعرف ما يفعله البشر وما يدور في صدورهم وسيحاسبهم عليه.. إلا أنه يبقى من الصحيح أيضا، أنه بالاطلاع على آيات الله نجد أنه عزَّ وجل يقول: “تِلۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهَآ إِلَيۡكَۖ مَا كُنتَ تَعۡلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوۡمُكَ مِن قَبۡلِ هَٰذَاۖ فَٱصۡبِرۡۖ إِنَّ ٱلۡعَٰقِبَةَ لِلۡمُتَّقِينَ” [هود: 49]. وهنا، يقول رب العِزة، بشكل واضح، إن أنباء الغيب لا يعلمها النبي ولا قومه، وهو يوحي ببعض منها لنبيه الذي سيبلغها بدوره لقومه.
وفي سورة الأنعام يأتي الأمر الإلهي للنبي أن يبلغ قومه: “قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ” [الأنعام: 50]؛ وهنا يأمر الله نبيه أن يقول لقومه بشكل قاطع: أنا لا أعلم الغيب، فقط أتبع ما يوحى إلي.
ويحسم تبارك وتعالى الأمر بشكل بَين في سورة الأعراف، في قوله تعالى: “قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ” [الأعراف: 188]. إذ في هذه الآية يتضح الأمر بشكل عملي بأمر من الله لنبيه أن يُخبر قومه، إنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وإنه لا يعلم الغيب. ويبرهن لهم على ذلك بأنه لو كان يعلم الغيب لأصاب المزيد من الخير وتفادى كل سوء.
فضلا عن قصة العبد الصالح مع نبي الله موسى عليه السلام، هناك أكثر من مثال في آيات التنزيل الحكيم، على مسألة الاجتباء الإلهي للرسل في إطلاعهم على “بعض” من علم الغيب؛ وقد أخبرنا سبحانه وتعالى، من خلال آياته البينات وحيًا بذلك.. عبر الأمثلة القرءانية التي أوردها لنا القرءان الكريم، مثل قصص يوسف ولوط ونوح عليهم جميعا وعلى نبينا السلام.
بالنسبة إلى نبي الله نوح، كما ورد في القصص القرءاني، فقد أعلمه ربه أن لن يؤمن آخرون من قومه في المستقبل، كما في قوله تعالى: “وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ” [هود: 36]؛ ثم أبلغه بأمر الطوفان القادم ومصير قومه من غير المؤمنين، كما في قوله سبحانه: “وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ” [هود: 37].
وبالنسبة إلى نبي الله لوط، فقد أخبرنا تبارك وتعالى أنه قد خسف بأقوام سابقين بعد أن أعرضوا عن ذكره ورفضوا نبيّه؛ فأُبلغ النبي وحيا بقرار العقاب وبوقته، وكيفية نجاة النبي والمؤمنين دون غيرهم؛ كما في قوله سبحانه: “كَذَّبَتۡ قَوۡمُ لُوطِۭ بِٱلنُّذُرِ ٭ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ حَاصِبًا إِلَّآ ءَالَ لُوطٖۖ نَّجَّيۡنَٰهُم بِسَحَرٖ ٭ نِّعۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَن شَكَرَ” [القمر: 33-35].
أما عن نبي الله يوسف، ففي السورة التي سُميت باسمه، يوجد أكثر من شكل من أشكال علم الغيب، فالمحرك الرئيس للأحداث هو رؤيا يوسف عليه السلام، في طفولته، كما في قوله عزَّ وجل: “إِذۡ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَٰٓأَبَتِ إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ” [يوسف: 4]. وهي رؤيا مستقبلية لم يفهمها الطفل في وقتها، لكن فهمها أبوه فخشي عليه غيرة إخوته إنْ عرفوها وفهموها.
ثم في الآية “93”، عَلِم يوسف بفقدان أبيه يعقوب لبصره، وأنه سيستعيده إنْ أُلقي قميصه هو على وجهه، كما في قوله عزَّ من قائل: “اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ” [يوسف: 93]. وفي الآية التي تليها، يبين الله للأب “النبي يعقوب” عليه السلام، أن خبر يوسف في الطريق، كما في قوله سبحانه: “وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ” [يوسف: 94]، وكان بالفعل قميص يوسف في الطريق إليه.
وللحديث بقية.