رؤى

“السعي للعدالة”.. وكسر الصور النمطية في العقل التديني (1-2)

بدأ الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ الحديث، كتابه “السعي للعدالة” بالوقوف أمام لوحة فنية، موجودة بمتحف تاريخ الطب في القاهرة، بجوارها بطاقة باهتة، تُشير إلى أنّها تصوّر أول درس للتشريح التعليمي في تاريخ مصر، اللوحة لرسام روسي عمل في مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، أي بعد أكثر من قرن من ذاك الدّرس، وقد استقى الفنان فهمه ومعلوماته، عن ظروف افتتاح مدرسة الطب، التي قامت مناهجها التعليمية على التشريح من كتابات الفرنسي “أنطوان كلو” الشهير بـ “كلوت بك” مؤسسة أول مدرسة طبية في دولة مصر الخديوية.

تُعبّر الصورة عن الطرح الأكثر تداولا، والذي يختلف معه فهمي، فيَبدو “كلوت بك” في مهمة تنوير لاقت أشرس أشكال المقاومة، فتبدو – من هذا المنظور- الحداثة الطبية المصرية ربيبة الحداثة الغربية، فيُقارن هذا الطرح بين الأسئلة التي تطرحها تلك اللوحة، لدرس التشريح المصري ولوحات دروس التشريح في أوروبا، وخاصة تلك الدروس التي كانت في مدارس الطب الإيطالية، التي تُظهر توترا حاضرا في كلا الحالتين.

ففي مدراس الطب الإيطالي كان مبعثه سؤالا مركزيا: مَن له القول الفصل: النص (الذي يرجع أصله إلى الطبيب الإغريقي جالينوس في القرن الثاني الميلادي)، أم الجثة التي تُشَرَّح؟ هل يُمكن أن تتراجع النصوص الطبية الموروثة أمام نتائج التشريح والمعاينة المباشرة والحسيّة لدراسة جسم الإنسان، أم أن دور تشريح الجثة يقتصر على إثبات صحة تعاليم الأولين؟

وفي أول دروس التشريح بمدرس الطب المصرية ٢٠ أكتوبر عام ١٨٢٧ ([1]) تُشير اللوحة إلى نوع آخر من التوتر، فلا تشير اللوحة إلى أيّ نص سابق باستثناء أسماء أعلام الطب القدماء التي تُزيّن جدران القاعة، فلا يُوجد توتر بين نص طبي سابق والمباشرة الحسّية للتشريح؛ لكن يُوجد توتر من نوع آخر توتر قائم بين الجثة والكتاب بـ (ال) التعريف، فلا أستاذ التشريح ولا الجثة التي يجرى تشريحها هما اللذان يحتلان مركز الصدارة في اللوحة المصرية، وإنما تحتل مجموعة من المشايخ قلب المشهد، صورّهم الرسام بطريقة تجعلهم يحجبون الجثة عن نظرنا وعن نظر الطلاب، الجثة التي يُفترض أن تكون مصدر المعرفة الحسّية بالهيكل الداخلي لجسم الإنسان… هكذا يقف الفكر الديني المتوحد مع الدين في عقل هؤلاء الشيوخ حائلا أمام التشريح، في الصورة يقف ضابط عند قدمي الجثمان بينما يقف جندي مسلح حارسا على مدخل القاعة، كان الحراس يُحيطون بقاعات التشريح، وهم لا يدرون شيئا عما يدور بداخلها، فالمصريون كان لديهم مشاعر سلبية تجاه التشريح التعليمي. ([2])

فالصورة، ليست مجرد صورة توضيحية لعملية التشريح الأولى، وإن بدت بسيطة لأول وهلة، وإنما هي عنصر ناطق فعَّال يحمل الكثير من الدلالات المتداخلة، فهي امتداد للواقع الخارجي الذي لا ينفصل عنها، والذي أسهم في تحريك الأحداث، وظّفها فهمي ليُعبّر عن علاقة الفكر الديني بالحداثة من منظور سرعان ما سيختلف معه كما كشفت الصفحات التالية للكتاب.

أعاد “توظيف خالد فهمي صورة درس التشريح” إلى ذهني صورة الرئيس جمال عبدالناصر في رواية “وكالة عطية” للروائي المصري خيرى شلبي التي اختلف موقعها على الحائط، وتفاوت إطارها تبعا للشخصية، فشخصية من عامة المصريين مثل “سيد زناتي” بثقافته يستهويه إطار مزخرف مذهّب لصورة للرئيس جمال عبدالناصر واختارها بالزي العسكري الميري، وعلّقها في الصدارة أعلى نقطة، “هناك صورة لجمال عبدالناصر باللباس العسكري أثناء توقيع اتفاقية الجلاء مبروزة بماء الذهب ومعلقة في حائط الصدارة”. ([3]) وفي مقابل ذلك نجد موقع الصورة جانبي في حجرة شخصية الإخواني “عبدالله أبو حنطور”، “على الحائط الجانبي صورة للبكباشي جمال عبدالناصر يلعب الشطرنج في استغراق شديد”. فاختيار لقطة صورة عبد الناصر مستغرقا في التفكير والتخطيط في لعب الشطرنج يوحي بما سيحدث لعبدالله وجماعته من الرئيس جمال عبدالناصر مع نهاية الرواية، وكأنهم كانوا قطعا من الشطرنج في معركته؛ لنقل السلطة من الملكية إلى الجمهورية، ومن أسرة محمد على باشا إلى ما يعرف تاريخيا بالضباط الأحرار، فحكى بموقع الصورة ما قاله مؤرخو تلك الحقبة في عشرات الصفحات.

فخالد فهمي مثل خيرى شلبي يمتلك حسا فنيا في سرديته التاريخية جعل من العتبات الأولى لكتابهِ أفقا ممتدا يحمل القارئ إلى مناطق ناطقة بالكثير من التفاصيل من الوهلة الأولى.

ينطلق خالد فهمي من هذه العتبة السردية إلى عدة أسئلة بحثية يفكر من خلالها مع القارئ، منها: سؤال هل يُمكن أن ننطلق من الجسد الإنساني لدراسة مشروع التحديث في القرن التاسع عشر المعروف باسم “النهضة”؟ كيف يمكن دراسة عمليتي التشريح التعليمي والجنائي، وما قاما عليه من إصلاحات طبية وقانونية  كوسيلة لإعادة النظر في كامل مفهوم الحداثة؟ هل كان الفكر الديني والتّعصب الإسلامي عقبة في طريق الحداثة الطبية في مصر؟ هل عارض الإسلام إدخال الطبّ الحديث إلى مصر؟ كيف تفاعل الأهالي مع نظام حديث للطب والصحة العامة ممثلا في مدرسة ومستشفى قصر العيني، الحجر الصحي والتطعيم، تشريح جثمان الإنسان لأغراض تعليمية؟

يُجيب من خلال تحليل أربع موضوعات تتعلق بالنظام الحديث للطب: المستشفيات ومكاتب الصحة، والكرنتينا أي الحجر الصحي، والتطعيم ضد الجدري، وعلميات التشريح التعليمي ومناظرة الجثث، مُقدّما أنموذجا لقراءة تاريخية مختلفة مستمدة من المصادر الأرشيفية: المادة المودَعة في دار الوثائق القومية بالقاهرة، جمعها فهمي على مدار سنوات عديدة في التسعينات والألفينيات، على حدّ قوله: “وآثرت ألا أجرى أي تعديلات؛ لكي يستطيع القارئ أن يقف على لغة العصر ويتتبع تطورها”.

قراءة خالد فهمي للتاريخ تُساعد القارئ على الخروج من أسر الصور النمطية التي رسّخها الفكر الديني الوعظي، الذي لا يقدم الظواهر والأحداث بوصفها قضايا شديدة التركيب؛ بل يختزلها في صورة بسيطة تتنافى مع طبيعتها المعرفية، والأخطر أن الفكر الديني الوعظي في تعاطيه مع التاريخ كثيرا، ما يُقدم معرفته على نحو يقيني تصنيفي جاعلا من هذا خيّرا ملاكا، ومن ذاك شريرا شيطانا.

كذلك تُساعد قراءة فهمي للتاريخ، القارئ في إعادة النظر في المسلمات المتداولة في الفكر التنويري، والتي تجعل من الحداثة في الدولة الخديوية امتدادا للحداثة الأوربية، فعلى النقيض ينظر خالد فهمي إلى الحداثة الطبية في مصر في سياق عثماني لا في سياق أوروبي، فالإصلاحات الطبية والقانونية والإصلاحات المتصلة بالصحة العامة سيتغير فهمنا لها إذا درسناها في سياق الإصلاحات التي حدثت في ظل العثمانيين، فمصر في الحقبة الخديوية (١٨٠٥-١٨٧٩) جزء لا يتجزأ من الدولة العثمانية، وعلاقة القاهرة بباريس ولندن، حدثت في ضوء علاقة القاهرة بإسطنبول، بذلك تختلف رؤية فهمي عن رؤية لويس عوض التي قدمها في كتابه تاريخ الفكر المصري الحديث التي تحظى بقبول وانتشار في الأوساط الثقافية المصرية، والذي يُصور قرون الحكم العثماني الثلاثي لمصر، على أنها عصور ظلام.. كذلك يرفض فهمي إدراج الحداثة الطبية في تلك الفترة من تاريخ مصر، تحت مصطلح “الطب الكولونيالي” الذي يصف أساسا تجربة الهند في القرن التاسع عشر.

يكسر خالد فهمي الصور النمطية التي يميل العقل العربي لتكوينها عادة، فيقدّم فهمي تفسيرين مختلفين لرفض الأوروبيين للتشريح التعليمي، التفسير الأول رواية “كلوت بك” كواحد من مفكري ما بعد عصر التنوير، الذين يرون الدين بشكل عام -لا الإسلام وحده- عقبة تعترض طريق التفكير العلمي العقلاني، فيُشدد مفكرو عصر التنوير دوما على أنّ الكنيسة كانت العقبة الكئود أمام فتح الجثث لأغراض علمية، وكان هناك اعتقاد بأن الكنيسة حظرت شق الجسد الإنساني، وكان فتح الجسد يُعتبر مساسا بالمقدسات؛ لأنه مثل تحديا لإرادة الله في أن يبقى ما لا تراه عين الإنسان لغزا لا يجب كشف أسراره، وبالتالي سادت رؤية تقضي بأن التشريح التعليمي يشكل انتهاكا للأمر الإلهي.. وعلى النقيض يأتي التفسير الثاني.. كما سيأتي بيانه في الحلقة الثانية من المقال.

[1]–  أول منشأة طبية تُقام في مصر منذ أكثر من خمسة قرون خلت، هي ومطبعة بولاق المنشأتان الوحيدتان اللتان صمدتا لصروف الزمن من عصر محمد على حتى يومنا هذا، وكان المبنى مركزا لمجمع طبي يضم مدرسة ومستشفى يخدمان معسكر “جهاد آباد”.

[2]–  السعي إلى العدالة، ص١٧.

[3]– ا خيرى شلبي، وكالة عطية، ٤٢٩.

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

أستاذ بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock