“ٱلشَّهَٰدَةِ” في آيات التنزيل الحكيم، هي نوع من إثبات وقوع الحدث؛ بمعنى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” تتحول إلى واجب تفرضه العدالة، لتحقيق ضرورة اجتماعية نتيجة لوجود “الشاهد” في الحدث، في وقت وظرف محددين، كما تُشير إلى ذلك، كمثال، “آية الدَّين” [البقرة: 282].
بهذا المعنى، يأتي إطار الصيغة التقريرية للفعل “شَهِدَ”، حيث يستند فعل “ٱلشَّهَٰدَةِ” أساسًا إلى “تأكيد معرفة حقيقة معينة والإقرار بها”.. كما في قوله سبحانه: “فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ” [آل عمران: 52]؛ وكما في قوله تعالى: “وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ” [المائدة: 111].
ولعل المُلاحظ، من خلال آيات التنزيل الحكيم، أن جميع صور “ٱلشَّهَٰدَةِ” تُميز بين شهادة الحق، وهي بالفعل الأكثر ورودًا في النص القرءاني، وشهادة الباطل، أو الزور، التي يُعرف الموصوم بها بالفسوق عن الحق، ويوصف بكونه من “ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ”؛ بل، ويُعتبر ارتكابها ذنب يُعاقب عليه القائم بها. إذ، لنا أن نتأمل قوله سبحانه وتعالى: “كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٭ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ” [آل عمران: 86-87]. وكما يبدو، عبر سياق الآية الكريمة، يأتي “الكُفر” من هؤلاء “ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ” بإنكار شهادتهم هم بأن “ٱلرَّسُولَ حَقّٞ”، وذلك بعدما “جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ”.
وفي إطار الصيغة التقريرية للفعل “شَهِدَ”، فإن الشاهد هو “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ في حين أن الشهيد هو “من يأتي بالشهادة الحضورية بما اكتسبه من المُشاهدة”، للشيء أو الحدث؛ ولذلك، فإننا في رحلتنا مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، تناولناها عبر آيات التنزيل الحكيم التي تؤشر إلى الحياة الدنيا، وملامح كل من الشاهد والشهيد، ومن ثم الشاهدين والشهداء.
يعني هذا -في ما يعنيه- أن مصطلح “الشاهدين” يدل على “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ وهي الدلالة التي تتأكد، في قوله سبحانه: “وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ” [الأنبياء: 78]. إذ، الشهادة في هذه الحال شهادة معرفية، أي شهادة خبير بحكم كل من “دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ”.
أما الشهداء، فهم في صيغة الجمع من شهيد؛ لذا، فإن مصطلح “شهداء” يدل على أن شهادة هذا المجموع من الأشخاص هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي إن لديهم “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.. أو لنقل: إن شهادتهم “شهادة حضورية”. هذه الدلالة تتأكد في قوله تعالى: “قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ ٭ قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 98-99].
وقد وصلنا في الحديث السابق بخصوص “التساؤل حول شهداء الآخرة”، إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيكون “شَهِيدًا” على كل شهيد في كل أمة؛ وذلك كما في قوله عزَّ من قائل: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ…” [النحل: 89].
ورغم أن “الشهيد”، في كل أمة، وتبعًا لدلالة المصطلح التي وصلنا إليها من خلال آيات التنزيل الحكيم، هو “من لديه معرفة عينية بالأمة التي هو منها”، أي يمتلك المعرفة “الحضورية” بها، إلا أن الرسول الكريم سيكون “شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”؛ أي شهيدًا على كل شهيد من/في كل أمة. ليس فقط، ولكنه سيكون كذلك شهيدًا على أمته؛ كما في قوله عزَّ من قائل: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ…” [البقرة: 143]. إذ، إن الأمة المحمدية، وإن كانت في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”، إلا أن الرسول سيكون على أمته “شَهِيدٗاۗ”.
هذا عن مصطلح “شُهَدَآءَ”.. فماذا عن مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ”؟
لم يأت مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ”، وهو استعمال قليل في اللغة، سوى “مرتين” في التنزيل الحكيم؛ وفي هاتين المرتين، نُلاحظ أنه يرد حصرًا في مقام اليوم الآخر.. يقول سبحانه: “إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ” [غافر: 51]. ولعل التساؤل حول التعبير القرءاني “وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ”، يتضح عبر السياق القرءاني في الآية التالية مباشرة، فهذا اليوم “يَوۡمَ لَا يَنفَعُ ٱلظَّٰلِمِينَ مَعۡذِرَتُهُمۡۖ”، كما في قوله تعالى: “إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ ٭ يَوۡمَ لَا يَنفَعُ ٱلظَّٰلِمِينَ مَعۡذِرَتُهُمۡۖ وَلَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ” [غافر: 51-52].
ولعل أول ما يُمكن ملاحظته، عبر السياق القرءاني في الآيتين الكريمتين، هو صيغة “الجمع” في مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ”؛ وهذه الصيغة تدل على وجود الدليل الذي لا يُمكن دحضه في مسألة “ٱلشَّهَٰدَةِ”. أيضا، ضمن ما يُمكن ملاحظته، أن مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ” يرد حصرا في مقام اليوم الآخر؛ وهو ما يتبدى بوضوح عبر التعبير القرءاني “فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ”.. إذ، لنا أن نتأمل كيف وردت الحركة العطفية، التي تؤشر إلى الاختلاف بين المعطوفين “فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا” و”يَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ”.
ولعل ذلك يتأكد عبر الموضع الثاني الذي يرد فيه مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ”، في آيات التنزيل الحكيم؛ نعني قوله عزَّ وجل: “وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ” [هود: 18].
وهنا، لنا أن نُلاحظ أن “العرض” يكون يوم “العرض”، أي اليوم الآخر؛ حينذاك “أُوْلَٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ…”. إذ، العرض هو “إظهار الشيء الخفي لمعرفة حاله”؛ والأمثلة على ذلك كثيرة، منها، كمثال، “العرض العسكري” الذي تقوم به دولة ما لإظهار قوة جيشها للآخرين من الدول، سواء الأعداء منها أم الأصدقاء.
وهنا، يكون التساؤل: إذا كان مصطلح “ٱلۡأَشۡهَٰدُ” يرد حصرًا في مقام اليوم الآخر؛ فما هي العلاقة بينه وبين “شهداء الآخرة”.. والأهم، ما الفرق بينه وبين مصطلح “شُهُود” الذي يأتي للدلالة على جمع شاهد وجمع شهيد معا؟
وللحديث بقية.