في رحلتنا مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، عبر أحاديث سابقة، وصلنا إلى أنها تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”. و”ٱلشَّهَٰدَةِ” مصدر مشتق من الجذر “شَ هـِ دَ”، وهو أصل يدل على حضور، ومُشاهدة، وعِلم وإعلام؛ ولفظ “أشهد” من الألفاظ الدالة على “تحقُق الشاهد من الشيء”. وقد سُميت “ٱلشَّهَٰدَةِ” بهذا الاسم لأنها تؤشر إلى “مُشاهدة الشاهد للحدث المشهود”.
ولعل المُلاحظ، من خلال آيات التنزيل الحكيم، أن جميع صور “ٱلشَّهَٰدَةِ” تُميز بين شهادة الحق، وهي بالفعل الأكثر ورودا في النص القرءاني، وشهادة الباطل أو الزور، التي يُعرف الموصوم بها بالفسوق عن الحق، ويوصف بكونه من “ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ”؛ بل ويُعتبر ارتكابها ذنب يُعاقب عليه مرتكبه. إذ لنا أن نتأمل قوله سبحانه وتعالى: “كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٭ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ” [آل عمران: 86-87]. وكما يبدو.. عبر سياق الآية الكريمة، يأتي “الكُفر” من هؤلاء “ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ” بإنكار شهادتهم بأن “ٱلرَّسُولَ حَقّٞ”، وذلك بعدما “جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ”.
ولأن “ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي بذلك تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”؛ لذا تأتي آية “الدَّين” [البقرة: 282]، لتوضح كيف أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” يؤديها “شَهِيدٞۚ”.. هذا في حين أن المعهود الذهني يُشير إلى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” يؤديها “شاهد”.
وقد أكدنا من قبل، على ملاحظة أن الآية، آية “الدَّين”، أطلقت اسم “الشهيد” على الإنسان الذي شهد البيع والعقد، سمعيا وبصريا، وأدى شهادته بما شهد، كما حظرت الإضرار به “وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ”. أيضا لنا أن نُلاحظ أهمية الإشارة في الآية الكريمة إلى “وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ”؛ إذ إن الإشارة إلى “مِن رِّجَالِكُمۡۖ”، تعود إلى أن “الشهيد” لا مؤنث له، فالرجل شهيد، والمرأة شهيد.
يعني هذا في ما يعنيه، أنه عبر آية “الدَّين”، نجد أن قوله سبحانه وتعالى: “وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ”، يؤكد أن “شَهِيدٞ” الحدث، أو في حالتنا هذه شهيد “الدَّين”، هو من حضر الواقعة؛ بما يعني أن شهادة الشهيد هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.
الشاهد والشهيد، كل منهما اسم مفرد؛ وإن كانا يختلفان في الاشتقاق، إلا أنهما من أصل لساني واحد، هو فعل “شهد”. ومن منظور فعل القيام بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يبدو أن هناك اختلاف بين الشاهد والشهيد؛ وهو الاختلاف الذي يتضح من خلال آيات التنزيل الحكيم.
ودون إغراق في التفاصيل، التي أتينا على تناولها من قبل، فإن الشاهد هو “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ في حين أن الشهيد هو “من يأتي بالشهادة الحضورية بما اكتسبه من المُشاهدة”، للشيء أو الحدث. ومن هنا نُدرك، أن شهادة الشهيد أقوى من شهادة الشاهد؛ من حيث إن الأخير يعتمد على “الخبرة المعرفية”، في حين يستند الأول إلى “المُشاهدة العينية”.
الفارق إذن، بين الشهيد والشاهد هو الحضور والمعرفة، أو تحديدا الشهادة “الحضورية” والشهادة “المعرفية”.
فماذا إذن عن مصطلح “شهداء”؟
بداية، إذا كان لفظ الشهداء جمع شهيد؛ فإن مصطلح شهداء يدل هنا على أن شهادة هذا المجموع من الأشخاص هي “شهادة الحضور والمعرفة بالسمع والبصر”، أي إن لديهم “معرفة عينية بالشيء أو الحدث”.. أو لنقل: إن شهادتهم “شهادة حضورية”.
وتتأكد دلالة مصطلح “شُهَدَآءَ”، عبر قوله سبحانه وتعالى: “أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ” [البقرة: 133].
هذه الدلالة نفسها تتأكد من خلال قوله تعالى: “إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ” [آل عمران: 140].
وهنا، وفي ما يخص الحديث حول دلالة مصطلح “شُهَدَآءَ”، يتبدى بوضوح كيف يؤشر السياق القرءاني في الآية إلى “علو” منزلة الـ”شُهَدَآءَ”؛ إذ يدل على ذلك التعبير القرءاني “وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ”، حيث “يَتَّخِذَ” قرءانيًا تُؤشر إلى الاصطفاء والاختيار المتفرد.. تماما، كما في قوله سبحانه: “وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا” [النساء: 125]؛ ولنا أن نتأمل دلالات “ٱتَّخَذَ”، عبر التعبير القرءاني بخصوص نبي الله إبراهيم “وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا”.
هنا لابد من أن نُثير تساؤلًا هاما، يتعلق بالمعهود الذهني الخاص بمصطلح “شهداء”، ومدى علاقته بقوله سبحانه وتعالى: “وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ” [آل عمران: 169].
بداية.. في رحلتنا مع لفظ “شهد” ومشتقاته في التنزيل الحكيم، وخاصة الآيات الكريمات التي ورد فيها مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ” و”شَهِيدٞ” و”شُهَدَآءَ”، لا نجد فيها أية إشارة تدل على “ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ”. إذ كما ذكرنا في أكثر من موضع في هذه الدراسة حول مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، والمصطلحات التي تحيط به، فإن الشهيد من أسماء الله الحسنى، وإن الشهيد من شهد عقد البيع.. لكن لم نجد ما يمكن أن يُمثل رابطا بين الشهيد ومن قُتِل في سبيل الله.
فمن أين جاء الربط، إذن، بين الـ”شُهَدَآءَ”، و”ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ”؟
هنا، نرى أن ذلك الربط جاء من تطور المعهود الذهني عند “الناس” عمن حضر معركة ما وكان “شهيدا” عليها، وقُتِل فيها؛ وأن تطور المعهود الذهني بهذا الشكل يعود -في ما يعود إليه- إلى محاولة “الناس” تكريم “قتلى” الحروب ورفع ذكراهم والاحتفاظ بها في ذاكرتهم.
بعبارة أخرى، نتفق فيها تماما مع ما أورده المفكر السوري محمد شحرور -رحمه الله- من أن الربط جاء من حضور الشهيد للقتال، في المعركة التي قُتل فيها؛ فحين تحصل معركة بين فريقين، يُعتبر جميع من شارك فيها “شهداء” لأنهم حضروها، سواء قتلوا فيها أم لم يقتلوا.
ومن ثم، فإن جميع شهداء المعارك وحاضروها، هؤلاء منهم من يُقتل في المعارك، ومنهم من يبقى حيا، ليشهد أمام من لم يحضرها ويبلغه خبرها وما جرى فيها من أحداث.. فيصبح سامعوه “شاهدين” على المعركة التي كان هو “شهيدها”.