عند جسر المحسمة بالقرب من منطقة التل الكبير ارتقى بطل الحسم.. فاضت روحه الجسور، تمدد الجسد مخضبا بحناء العشق للتراب الذي ارتوى بالدم المقدس. خاتمة تليق بمجاهد لم يهن ولم يحزن؛ ظل طوال الوقت قابضا على سلاحه، يؤدي واجبه بإخلاص، لم يعرف اليأس في أحلك اللحظات، يحفظ للرجال قدرهم، ويستنهض عزائمهم ويدفعهم دفعا إلى تنفيذ ما يوقن البعض أن الإقدام عليه درب من دروب الخيال.
ليلة الثالث والعشرين من رمضان.. ليلة وترية التمس الأبطال فيها ليلة القدر؛ فقضوها في الذكر والصلاة وقراءة القرآن. كانت الأوامر قد صدرت لهم بمهاجمة قوات العدو التي عبرت إلى غرب القناة من ثغرة الدفرسوار، أمر الرفاعي رجاله بالتجمع؛ فجاءوا على الفور، افترش القائد الأرض فجلس الأبطال من حوله.. أجال إبراهيم نظره في وجوه أفراده وابتسامته العذبة تشي بهدوء غير معهود، تكلم الرفاعي عن جمال تلك الليلة التي أشعرته بصفاء ذهن وطمأنينة عجيبة أحس بردها في قلبه؛ فانتابته حالة من السعادة والمرح دُهش لها الرجال، حتى إنه طلب من أحدهم، وكان ذا صوت عذب أن ينشده “يا بيوت السويس” فأنشد وأنشد الرفاعي مبتهجا، ثم تناول سحوره بعضا من رقائق البسكويت المملح وبعض الماء.
ترامى إلى مسامعهم أذان الفجر، فقام الجميع وتوضأوا وصلى بهم إماما، فكان صوته يسري ساحرا مرددا آي الذكر الحكيم “قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لّا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا” إلى أن يصل في الركعة الثانية إلى قوله تعالى “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا” فتنساب دموعه ويحس كأنما يتنسم رائحة زكية لم يعرفها من قبل.
تقضى الصلاة فيطلب الرفاعي من رجاله الاستعداد لبدء الهجوم على قوات العدو، يتخذ الرجال مواقعهم، وبرتقي الرفاعي قاعدة صواريخ، ليمطر دبابات العدو من فوقها بقذائف (آر بي جي)، يتراجع العدو بعد أن خسر عددا من الدبابات دمرها الرفاعي ورفاقه، ويرفض البطل النزول من فوق القاعدة والاحتماء من القذائف التي يطلقها العدو أثناء تراجعه.
المجموعة 39 قتال يتوسطها الرفاعي
سبعة عشر عاما من المعارك المتواصلة لم يسترح فيها بطلنا ولم يقبل الابتعاد عن الميدان منذ شارك في معارك بورسعيد ضد العدوان الثلاثي في 1956. ما اكتسبه الرفاعي في تلك المواجهات من خبرات أهلته ليكون الأكفأ في العمليات خلف خطوط العدو، بعدها خاض قتالا مريرا في حرب اليمن شهد له بالمزيد من البطولات التي سيحصل بسببها على ترقية استثنائية، هناك فجع البطل عندما فقد أخاه الأصغر الملازم أول سامح الرفاعي، الذي كان منه بمثابة الابن.
بعد هزيمة يونيو، اختير الرفاعي ليكون على رأس المجموعة39 قتال التي أحالت سيناء إلى جحيم لا تهدأ ناره على جنود الاحتلال. كانت أولى العمليات نسف قطار للعدو عند ‘الشيخ زويد’ ثم نسف ‘مخازن الذخيرة’ التي تركتها قواتنا عند انسحابها من معارك، وبعد هاتين العمليتين الناجحتين، كان القرار بزيادة عدد أفراد المجموعة وتكليفها بمهام جديدة في سيناء.
كان الانضمام إلى مجموعة الرفاعي شرف لا يدانيه شرف، تسابق عليه خيرة رجال قواتنا المسلحة، اختار إبراهيم لمجموعته شعارا هو رأس النمر، وهو نفس الشعار الذي اتخذه البطل أحمد عبد العزيز في حرب فلسطين 1948.
في مطلع العام 1968، نشر الصهاينة منظومة صواريخ أرض – أرض أمريكية الصنع بامتداد القناة.. أراد الخبراء الروس معرفة تأثير تلك الصواريخ الحديثة على المعدات والأفراد عند عبور القناة.. طلب الروس طلبا رآه البعض مستحيلا، ورآه الفريق عبد المنعم رياض ممكنا.. طلبوا صاروخا من تلك المنظومة يتم فكه من الضفة الشرقية للقناة وإحضاره إليهم.
الشهيد عبد المنعم رياض إلى جوار الرئيس عبد الناصر
كان الرفاعي يكن للفريق رياض كل مشاعر الود والتقدير ويعتبره مثلا أعلى، وعندما استدعي إلى مكتب القائد العام كان يسرع الخطى لأنه يعلم أن العملية هذه المرة ستكون على أقصى درجة من الأهمية والخطورة.
وعلى عكس ما توقع البعض..طار بطلنا فرحا بتلك المهمة وأسرع هو ورجاله بالتنفيذ، وكانت العودة المظفرة بثلاثة صواريخ تم تسليمها للخبراء السوفييت الذين قاموا بتفكيكها ومعرفة أدق أسرار عملها ومداها وقوة تأثيرها وكيف يتم إيقاف عملها. عندما وصل الخبر إلى الولايات المتحدة، تم تعنيف القادة الصهاينة وأقيل القائد المسئول، وخرجت المنظومة بكاملها من التسليح الأمريكي، وكانت الخسارة فادحة.
يستشهد الفريق عبد المنعم رياض على جبهة القتال، ولا يستطيع الرفاعي أن يغالب دموعه حزنا على قامة عسكرية وإنسانية لا تطاولها قامة.. لكنه لا ينسى واجبه الذي يحتم عليه ومجموعته تنفيذ عملية سريعة تحافظ على معنويات الجنود بعد استشهاد القائد البطل.. يعبر الرفاعي ورجاله القناة ويستولون على موقع المعدية 6 الذي أطلق القذيفة التي كانت سببا في استشهاد الفريق رياض.. ويفتك الرفاعي ورجاله بكل من في الموقع وعددهم 44 عنصرا قتل أغلبهم خنقا وذبحا.
عقب توقيع اتفاقية روجرز يطلب الرئيس عبد الناصر من الرفاعي الانتقال برجاله إلى عمق سيناء للعمل تحت اسم جديد هو منظمة سيناء العربية مع إمكانية ضم مدنيين من أبناء سيناء وتدريبهم على العمل الفدائي لمواصلة العمليات ضد العدو الصهيوني دون أن تقع على الدولة المصرية أدنى مسئولية بعد قبولها وقف إطلاق النار.
تشير بعض المصادر إلى أن الأبطال المدنيين الذين انضموا للمنظمة بلغ عددهم نحو 1100 رجل من بدو سيناء ومدن القناة، وبالفعل نفذت المنظمة عدة عمليات أقضت مضاجع الصهاينة، وللأسف لا يحتفظ الأرشيف العسكري المصري بتفاصيل كثير من تلك العمليات.
وفي 5 أكتوبر صدرت الأوامر بتفجير آبار البترول في سيناء حتى يعطل الدخان عمل أجهزة الرادار الصهيونية وتنفذ المجموعة الاوامر بدقة تامة، وتستمر المجموعة في القتال بقيادة البطل الرفاعي حتى تحين لحظة الوداع مع ارتفاع الأذان مناديا لصلاة يوم الجمعة الموافق 19 من أكتوبر 73، عندما كان البطل يعتلي قاعدة صواريخ ويمطر دبابات العدو بوابل من القذائف أجبرها على التراجع، وكانت قوات العدو ترسل قذائفها لتأمين انسحابها، فسقطت إحداها بالقرب من القاعدة، لترتد إحدى شظاياها محدثة إصابة مباشرة في القلب الذي خفق بالحب للوطن طوال حياته، فتفيض على أثر ذلك روحه الطاهرة إلى بارئها، بعد أن سطر في سجل البطولة أعظم الصفحات، وشهد رجاله أن جثمانه ظل إلى أن دفن بعد ثلاثة أيام غضا يتدفق منه الدم قانيا برائحة المسك.. رحم الله أمير الشهداء.