رؤى

الطهطاوي ومستشرقي فرنسا

إن الغرب حين سعى إلى السيطرة على الشرق فقد وظف في ذلك سلطتين : القوة والمعرفة وقد قام بتوظيف المعرفة من خلال التراث الاستشراقي الغربي ولذلك يذهب إدوارد سعيد إلى “أن الاستشراق الحديث يمثل جانبًا من جوانب الاستعمار والإمبريالية يكشف سعيد عن أن ” الاستشراق في جوهره مذهب سياسي فرض فرضًا على الشرق، لأن الشرق كان أضعف من الغرب، وأنه تجاهل اختلاف الشرق” .

إن ازدهار الاستشراق قد صاحب ازدهار الاستعمار، وكان هدف الاستعمار من توظيف الاستشراق هو إرساء صورة للشرقيين تقوم على التخلف والجمود، وضرورة وصاية الغرب عليهم، فيقول موظف استعماري فرنسي في الجزائر “إن سكاننا الأصليين يحتاجون إلى أن يحكموا، إنهم أطفال كبار لا يستطيعون أن يستمروا وحدهم، يجب أن نرشدهم بحزم، وألا نتسامح مع تفاهاتهم، ونسحق المؤامرات، وعناصر التحريض على العصيان، وفى الوقت نفسه يجب أن نحميهم، ونوجههم بأبوية، وأن نؤثر عليهم بالقدرة المتواصلة لتفوقنا الأخلاقي، ومن هذا المنطلق الذي يسعى إلى إثبات تفوق الغرب فإن كثيرًا من المستشرقين سلموا بتفوق الحضارة الأوروبية، وحق الأوروبيين حكم الآسيويين والأفارقة ،وقد سعى المستشرقون إلى تصوير الشرق والإسلام بصورة جامدة تتسم بالتخلف “فيجرى تصوير الإسلام عند الباحثين المستشرقين وبين الكتاب، وفى الخيال الشعبي باعتباره مفتقرًا إلى تلك الصفات ذاتها التي جعلت الغرب عظيما، فإذا كان الغرب يقدر قيم الحرية والعقلانية والتقدم أصبح ينظر إلى الإسلام باعتباره يربى على الخنوع، والخرافة، والركود، والكسل” وإذا كانت الدراسات الحديثة تحاول الكشف عن الوجه الاستعماري للاستشراق ، فما هي الصورة التي وردت للاستشراق في خطاب الإصلاح قبل الاستعمار وبعده ؟

الاستعمار الفرنسي للجزائر
الاستعمار الفرنسي للجزائر

حين سافر رفاعة الطهطاوي إلى باريس عام 1826م كإمام لأول بعثة مصرية أرسلها محمد علي ، لم يكن الحقبة الاستعمارية قد بدأت بعد ، كانت عمامة الشيخ رفاعة الطهطاوي الأزهرية هي الحاكمة في نظرته المعيارية الدينية والأخلاقية للآخر ،وكان يقيم كل شيء من خلال المعيار الدينية والأخلاقية ، فيقول عن الآخر المغاير له في الثقافة( ولهم في العلم حشوات ضلالية ) ويقول ( ومن عقائدهم الشنيعة إنكار القضاء والقدر ) ويقول ( وأما أمريكا فهي بلاد الكفر) ،كانت نظرة الطهطاوي تنظر إلى الآخر من خلال تراث الذات الحضاري ،فنجده ينظر لهم وإلى ثقافتهم ونظمهم الحضارية ،ويبحث عن المقابل لها في ثقافته ،فكيف نظر المستشرقون إلى رؤية رفاعة الطهطاوي لهم في كتابه ( تلخيص الإبريز )؟

تخليص الإبريز في تلخيص باريز

لم يكن الاستشراق قد ازدهر ازدهارا كبيرا-مثل ازدهاره مع الحقبة الاستعمارية- ، ولكن هذا لم يمنع من احتكاك العديد من المصلحين بأقطاب الاستشراق منذ عهد رفاعة الطهطاوى، فرغم عدم ورود أي نقد عند رفاعة الطهطاوى للاستشراق في كتابه، فإنه قد احتك بالمستشرقين في فرنسا ، وقد راجع بعضهم مسودة كتابه “تخليص الإبريز” ومنهم المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسى ، والذي قرأ كتاب رفاعة الطهطاوى ، وأشاد به لأن الكتاب ينقل صورة إيجابية عن فرنسا والغرب، ولكنه انتقد الكتاب في أنه يحمل بعضا من الأوهام الإسلامية، وطعنه في افتقار نساء باريس للحياء، وحكمه على أهل فرنسا بما رآه في باريس فقط فيقول دي ساسى عن الكتاب “إنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأنه منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهما صحيحا عوائدنا وأمورنا الدينية، والسياسية، والعلمية، ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية ، غير أنه حكم على سائر أهل فرنسا بما لا يحكم به إلا على أهل باريس والمدن الكبيرة، ولكن هذه نتيجة متولدة ضرورة من حالته التي هو عليها حيث لم يطلع على غير أهل باريس ، وبعض المدن،ولقد وجد دي ساسى في الطهطاوى أحد الشخصيات التي يمكن أن تخدم أهدافه في تقديم صورة إيجابية لتفوق الحضارة الغربية فأشاد بالكتاب، واعتبر اعتزازه بإسلامه وتراثه مجرد أوهام إسلامية، حيث كان سلفستر دي ساسى أحد المستشرقين الفرنسيين الكبار الذي يخدم أغراض وطنه الاستعمارية حيث ” كان يشغل من 1805 منصب المستشرق المقيم بوزارة الخارجية الفرنسية، وكان عمله ينحصر في البداية في ترجمة نشرات الجيش الفرنسي ، وعندما احتل الفرنسيون مدينة الجزائر عام 1830 كان دي ساسي هو من ترجم الإعلان العام للجزائريين، وكان وزير الخارجية يستشيره بانتظام في جميع الشئون الدبلوماسية المتعلقة بالشرق”.

سلفستر دي ساسى
سلفستر دي ساسى

ورأى مستشرق آخر وهو كوسين دي برسـﭬال في عمل الطهطاوى ميزة كبرى أنه يظهر التقدم الأوربي، ويعكس في نفس الوقت التخلف الشرقي ذلك الهدف الذي كان يسعى المستشرقون إلى تأصيله في بلاد الإسلام فيقول برسـﭬال أن الطهطاوى “أهدى – لأهل وطنه- نبذات صحيحة عن فنون فرنسا، وعوائدها، وأخلاق أهلها، وسياسة دولتها، ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية، والفنون النافعة أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعرفة المفيدة، ويولد عندهم محبة التمدن الإفرنجي والترقي في مصانع المعاش” .

وكان الطهطاوى متألما من كلام دي ساسي من أن الكتاب يحمل بعض الأوهام الإسلامية، وأشار على برسـﭬال بما قاله دي ساسي فأجابه بأنه لا يرى ذلك مضرا، لأنك كتبت ما هو في اعتقادك، ولو تتبعت ما قاله الإفرنج، ووافقت آراءهم للحياء أو غيره لكان ذلك محض موالسة ، ومن الملاحظ أن الطهطاوى الذي ينقل عن الغرب المعلم لم يكن ليتخلى عن شخصيته الحضارية ، ويوافق على كل عوائدهم، ولكن المفيد في الأمر هو قراءة المستشرقين لأهمية عمل رفاعة الطهطاوى عن فرنسا، ودوره في تقديم هدف خفي لهم في إبراز التقدم الأوربي، وبالمقابل إظهار التخلف في بلاد الإسلام، فهذا هدف وسياسة كان يسعى إليها المستشرقون .

ثمة صورة مزدوجة لخطاب الإصلاح ، فقد كان المصلحون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أداة البعث ،ومواجهة التخلف والجمود ، وإبراز أسباب النهضة الأوربية ، وكنا ومازلنا ننظر إليهم على أنهم كذلك ، ولكن المستشرقين ورجال السياسة الغربيين كانوا يرون فيهم الأداة لإبراز التقدم الغربي إزاء التخلف الإسلامي مما يبرر لهم أطماعهم الاستعمارية ، وكانوا يرون في آرائهم الأداة لقبول الثقافة التقليدية للشعوب المستعمرة للمؤسسات التحديثية مثل البنوك ،والاستثمار ، أو مفاهيم التحديث المختلفة سواء من خلال الاجتهادات الفقهية أو آرائهم الإصلاحية ، ولعل هذا ما يبرر تشجيع دي ساسى، وبرسفال للطهطاوي في مراجعتهم لكتابه “تخليص الإبريز”، أو في مساعدة اللورد كرومر للإمام محمد عبده في العودة إلى مصر باعتباره الخليفة الطبيعي للمصلح الأوربي .

باريس في القرن الثامن عشر
باريس في القرن الثامن عشر

ومن هنا يمكن القول أن المصلحين كانوا ينظرون إلى أعمالهم على أنهم أداة البعث وطريق استنهاض أممهم من الغفلة والتخلف ، وأنهم حاملي لواء التجديد في أوطانهم ، ولكن المستعمر كان ينظر لهم على أن هؤلاء حين يقدمون صورة إيجابية عن الآخر الغربي ومدنيته فإن هذا يمكن أن يبرر لهم إيديولوجيتهم الاستعمارية التي جاءت إلى الشرق تحت لواء (الاستعمار من أجل تمدين الشعوب المستعمرة ) ، ولهذا تظل للحقيقة أكثر من وجه ، وكل ينظر إلي الآخر من خلال عينه وثقافته وأهدافه ،فالحقيقة لها أكثر من وجه ، والأمر يتوقف على موقعك منها.

د. أحمد سالم

أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock