رؤى

خلافة “آدم”.. ودلالة “الاصطفاء” الإلهي

تأتي أهمية الدلالة في مسألة الاصطفاء الإلهي لآدم عليه السلام، من حيث إنها ترتبط بالتشريع وحمل الرسالة، كما في قوله سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 33]. فإذا كان نوح أول من أُوحِي إليه، فقد كان آدم الذي اصطفاه الله من بين البشر، وميزه بالروح، أو تحديدًا بـ”نفخة الروح” (سر الأنسنة)، أول من اضطلع بمسئولية ومهام “الخلافة” في الأرض.

وقد وصلنا إلى أن أصل الاصطفاء هو من الفعل صفو، الذي يدل على اختيار الشيء وخلوصه من كل شوب؛ لكن الاصطفاء ليس مجرد اختيار، بل هو “تفرد في الاختيار”، بمعنى أن الشخص أو الشيء المُصطفى لحدث ما هو مُتَفرد في هذا الحدث، ولم يسبقه إليه أحد، أو ليس له سابقة. وبناءً عليه، فإذا وجد الاصطفاء وجد المُصطفى منه، أو المُصطفى عليه؛ وأن هذا المُصطفى لابد وأن يُصطفى من أفراد جنسه وليس من أجناس أخرى.

اصطفاء الأنبياء

ولعل هذا يتأكد إذا ما اقتربنا من دائرة الدلالة لمصطلح الاصطفاء، في المرات التي ورد فيها في كتاب الله الكريم، وهي “ثلاث عشرة” مرة.

وقد اصطفى الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام من قومه وعلى قومه، كما في قوله سبحانه: “وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ” [البقرة: 130]؛ ولأن هذا الاصطفاء ـ في الدنيا ـ هو اختيار مُتَفرِّد، لذا جعل الله إبراهيم إمامًا للناس، وهو ما جاء في قوله تعالى: “وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا” [البقرة: 124]؛ بل، وأكد سبحانه وتعالى على تفرد “مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ”، في قوله: “وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ” [البقرة: 130].

ثم، هناك الاصطفاء الإلهي لموسى عليه السلام، على الناس، كما في قوله سبحانه: “قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ” [الأعراف: 144]. ومن حيث إن اصطفاء موسى هو اختيار مُتَفرِّد، لذا فقد اختص الله تعالى موسى بـ”التَكْلِيم”، كما جاء في قوله: “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا” [النساء: 164].

ولنا أن نُلاحظ أن الاصطفاء، لكل من إبراهيم وموسى، عليهما السلام، يأتي مُرتبطًا بسمة محددة، واختصاص بأمر من أمور التشريع؛ ففي حال إبراهيم يأتي الاصطفاء مُرتبطًا بـ”مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ”، من حيث اقترانها بالحنيفية، كما في قوله تعالى: “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ” [النحل: 123]. ولأن إبراهيم لم يكن “مِنْ الْمُشْرِكِينَ”، وكان “أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا” [النحل: 120]، لذا فقد ارتبطت “مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ” ليس بالحنيفية فقط، بل اقترنت بالدين القيم، والصراط المستقيم؛ وهذا ما يدل عليه قوله سبحانه: “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ” [الأنعام: 161].

أما في حال موسى، فقد جاء مُرتبطًا بالتنزيل التوراتي (عهدًا وقانونًا ووصايا عشر)؛ ومُرتبطًا، في الوقت نفسه، بنهي موسى لقومه عن الانقلاب على أدبارهم، وهو ما يوضحه قوله تعالى: “وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ” [المائدة: 21]، وقوله: “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [البقرة: 53].

سمات الاصطفاء

ولنا أن نُلاحظ أن الاصطفاء، لكل من إبراهيم وموسى، عليهما السلام، يأتي مُرتبطًا بسمة محددة، واختصاص بأمر من أمور التشريع؛ ففي حال إبراهيم يأتي الاصطفاء مُرتبطًا بـ”مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ”، من حيث اقترانها بالحنيفية، كما في قوله تعالى: “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ” [النحل: 123].

ولأن إبراهيم لم يكن “مِنْ الْمُشْرِكِينَ”، وكان “أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا” [النحل: 120]، لذا فقد ارتبطت “مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ” ليس بالحنيفية فقط، بل اقترنت بالدين القيم، والصراط المستقيم؛ وهذا ما يدل عليه قوله سبحانه: “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ” [الأنعام: 161]. أما في حال موسى، فقد جاء مُرتبطًا بالتنزيل التوراتي (عهدًا وقانونًا ووصايا عشر)؛ ومُرتبطًا، في الوقت نفسه، بنهي موسى لقومه عن الانقلاب على أدبارهم، وهو ما يوضحه قوله تعالى: “وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ” [المائدة: 21]، وقوله: “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [البقرة: 53].

ولم يتوقف ورود الاصطفاء في آيات الله البينات على حالتي إبراهيم وموسى، ولكنه يمتد إلى مريم الصديقة التي اصطفاها الله على نساء العالمين. يقول سبحانه وتعالى: “وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ” [آل عمران: 42]. وهنا، لنا أن نلاحظ ورود لفظ الاصطفاء مرتين في الآية، عبر حركة العطف “اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ”، وبينهما “طَهَّرَكِ” التي جاءت للفصل بينهما.

وفي اعتقادنا ـ بخلاف الخطأ الشائع حول مسألة “التكرار” ـ بأنه ليس بتكرار؛ فالتنزيل الحكيم لا يتضمن أي تكرار أو زيادة، بل دلالة مُضافة إلى المفهوم في حالة ورود اللفظ، أو الآية، أكثر من مرة. الدليل، أن الآية تُشير إلى اصطفاء إلهي لمريم مرتين؛ الأول، يتبين من خلال سياق الآيات التي سبقت هذه الآية، في نفس السورة. يقول سبحانه: “إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي” [35]، وعندما وضعتها: “قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى” [36]، ثم جاءت التسمية: “وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ” [36]، وهكذا جاء الاصطفاء الأول، عندما تقبلها الله: “فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا” [37]. أما الاصطفاء الثاني الذي كان اصطفاءً لمريم “عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ”، فيتبين من خلال سياق الآيات التالية لها، وصولًا إلى قوله تعالى: “إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ” [45].

الاصطفاء المتفرد

في هذا السياق، يتأكد أن الاصطفاء لا يكون إلا من جنس المُصطفى منه أو عليه؛ وبالتالي، فاصطفاء الله لآدم كان من جنسه الذين خلقهم الله من تراب، ثم اصطفى منهم آدم. يقول سبحانه وتعالى: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ٭ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [آل عمران: 33-34]. ومن خلال تأمل الآية، نجد أن الاصطفاء يأتي بصيغة المُفرد في حالتي آدم ونوح، بينما يأتي بصيغة الجمع في حالتي آل إبراهيم وآل عمران؛ حيث كان الختام في آل عمران بيحيى بن زكريا، ثم الختام الكلي في آل إبراهيم بخاتم الأنبياء والرسل.. محمد عليه الصلاة والسلام.

بالنسبة إلى نوح عليه السلام، فقد بيَّن سبحانه وتعالى أن نوحًا هو أول من أُوحِي إليه من بني الإنسان، ومن جنس البشر، كما في قوله سبحانه: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ” [النساء: 163]؛ وكما في قوله تعالى: “ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ” [يونس: 74]. ولعل الأهم أن تاريخ الإنسان “الحديث” يبدأ بنوح، وذلك هو ما يوضحه قوله: “فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ” [يونس: 73]. وربما هذا ما يدل على السبب في ورود الاصطفاء لنوح، الذي كان أول نبي ورسول من بني الإنسان، بصيغة المُفرد.

وكما هو الحال مع نوح، كان الأمر مع آدم. فآدم هو أبو الإنسانية، وليس أبًا للبشر، الذين اصطفاه الله سبحانه وتعالى منهم، وليجعله خليفة لهم، أي لمن سبقه من جنس البشر، وليس خليفة لله، في الأرض، كما يقول البعض. وإذا كان نوح أول من أُوحِي إليه، فقد كان آدم الذي اصطفاه الله من بين البشر، وميزه بالروح، أو تحديدًا بـ”نفخة الروح”، أول من اضطلع بمسئولية ومهام “الخلافة” في الأرض.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock