رؤى

وسائل الإعلام الإخبارية القديمة تصيب الرأي العام الأمريكي بحالة ذُهان بشأن روسيا وأوكرانيا

هناك حالة ذهان متنامية تجتاح الولايات المتحدة حول القصف الروسي لأوكرانيا، وتسببه وسائل الإعلام الإخبارية القديمة.

حيث يقود التدفق المستمر للمعلومات المنحازة، والخاطئة في كثير من الأحيان، أو غير المكتملة التي تنبعث من الصحف القديمة؛ الناس إلى اختيار أحد الجانبين بصورة سريعة في نزاع دولي معقد، ويتم التلويح بالأعلام لدعم “جانبهم”، وتملق القادة العالميين المؤيدين لجانبهم، وحتى إقامة مسيرات سلمية بالسيارات في محاولة لفعل ما يعتقدون أنه وسيلة لمنع الحرب العالمية الثالثة.

وفي هذه العملية، يتم دفع سياق وتفاصيل الصراع، فضلا عن جذوره التاريخية؛ جانبًا لصالح نوع من “التفكير الثنائي” الشائع جدًا في الثقافة السياسية الأمريكية.

يجب ألا يكون التحدث علنا ضد الهجمات الروسية على أوكرانيا، ودعم الشعب هناك؛ عصيًا على الفهم أو يصعب القيام به. ومع ذلك، فإن مطالبة الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات صارمة، مثل التنفيذ السريع لمنطقة حظر طيران، تظهر مستوى متضائل من التطور فيما يتعلق بالعلاقات الدولية.

وهذا هو الذهان.. فوفقًا لموقع (الموسوعة الطبية) فالذهان هو حالة تؤثر على طريقة معالجة عقلك للمعلومات. بحيث يجعلك تفقد الاتصال بالواقع. وقد ترى أو تسمع أو تصدق أشياء غير حقيقية… يمكن أن تنجم عن… الإجهاد الشديد أو الصدمة. “

الذهان

وقد ظهر الكثير من الإجهاد على الأمريكيين مؤخرًا، بشأن ما يحدث في روسيا وأوكرانيا بسبب تقارير وسائل الإعلام الإخبارية القديمة. حيث تُعد تغطية الحرب أمرًا مُربحا للغاية لوسائل الإعلام. وعندما تناشد القومية وتؤذي اللاعبين الدوليين، فإنها تثير  الجماهير وتجذبهم. ونتيجة لذلك غالبًا ما تقوم وسائل الإعلام الإخبارية الشوفينية بدفع الناخبين إلى حالة من الذهان القومي بشأن الشئون الخارجية.

كما  وثَّق موقع (The Intercept) في منتصف شهر مارس وأوضح، أنه بدلاً من السعي في مسارات السلام أو إجراءات خفض تصعيد الأحداث في أوكرانيا، قام مراسلو وسائل الإعلام الإخبارية القديمة بقصف البيت الأبيض بأسئلة تهدف إلى دفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

روسيا وترامب وفيديو التبول

وبدأت التقارير المليئة بالخوف، والتي أدت إلى الذهان الأمريكي على روسيا قبل ست سنوات، عندما كان الجمهور  يتكيف ببطء  ومنهجية،  مع   قصص إخبارية  كاذبة لا أساس لها من الصحة، زعمت أن روسيا قد اخترقت  محطة كهرباء في فيرمونت؛ ووضعت  مكافأة  على رأس الجنود الأمريكيين في أفغانستان. وأحدثت تحوّلا  في نتائج الانتخابات حول العالم؛ وابتزت الرئيس آنذاك دونالد ترامب بفيديو التبول سيئ السمعة.

ترامب وبوتين
ترامب وبوتين

ودفعت هذه الدعاية الجماهير الليبرالية إلى إلقاء اللوم على روسيا في كل ما كرهوه بشأن رئاسة ترامب، وصرفت انتباههم ببراعة عن  فشل وسائل الإعلام الإخبارية، في صناعة الاستطلاعات التي  توقعت  فوز هيلاري كلينتون بالانتخابات الرئاسية عام 2016.

وقدم غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير القانوني وغير المبرر لأوكرانيا فرصة مربحة لوسائل الإعلام الإخبارية القديمة لإعادة إشعال وتضخيم المزيد من الثرثرة المعادية لروسيا.

ولا يعني أي من هذا أنه يجب الدفاع عن روسيا أو بوتين في الصحافة. بدلاً من ذلك، يحتاج المواطنون الأمريكيون، مثل أي مواطن في ديمقراطية مفترضة، إلى سياق لفهم الشئون العالمية، والصحافة محمية بموجب التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة بغرض توفير هذا السياق.

علاقات حميمة مع صناعة الأسلحة

ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالتقارير، فإن وسائل الإعلام الإخبارية القديمة تفضل الربح على الصدق. في الواقع، فإن الكثير من عائدات وسائل الإعلام القديمة، والعديد من ضيوفها من مستفيدي الصناعات العسكرية، والتي تستفيد ماليا عندما يدعم الأمريكيون الحرب.

على سبيل المثال، في مارس انتقد السكرتير السابق لوزارة الأمن الداخلي جيه جونسون، روسيا في برنامج “Meet the Press” التابع لشركة الإذاعة الوطنية، لكن المضيف تشاك تود أهمل ذكر أن جونسون عضو في مجلس إدارة الأمن العالمي، وشركة طيران  لوكهيد مارتن. وهذا تضارب واضح في المصالح يجب أن يكون الجمهور على دراية به عند النظر في تحليل جونسون.

ويأتي تفضيل الرسائل المؤيدة للحرب على حساب التقارير المفيدة. ونتيجة لذلك، لا يزال الجمهور الأمريكي غير مطلع إلى حد كبير على القضايا الرئيسية المتعلقة بالشئون الدولية.

ووجدت دراسة استقصائية أجرتها “مؤسسة غالوب” عام 2019،   بتكليف من مجلس العلاقات الخارجية (CFR) والجمعية الجغرافية الوطنية (NGS) أن “أقل من نصف المستجيبين كانوا قادرين على تحديد أفغانستان على أنها الدولة” التي وفرت ملاذا آمنا للجميع -القاعدة قبل هجمات 11 سبتمبر 2001، وأكثر من النصف بقليل استطاعوا تحديد مكان العراق على الخريطة.”

قوات أمريكية في العراق
قوات أمريكية في العراق

وتلعب وسائل الإعلام الإخبارية دورا واضحا في مثل هذا الجهل، حيث وجد الاستطلاع نفسه أن “أولئك الذين يقولون إنهم يستخدمون الكتب أو المجلات أو الراديو لمتابعة هذه القضايا، وأولئك الذين يحصلون على معلوماتهم من مجموعة واسعة من المصادر حصلوا على درجات أفضل من أقرانهم”.

الخير ضد الشر

لا توفر وسائل الإعلام الإخبارية للشركات، أي سياق تاريخي تقريبًا للأحداث التي تجري في أوكرانيا، مثل عملية السلام المنصوص عليها في اتفاقيات مينسك 2014 و 2015،  أو الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة  في أوكرانيا عام 2014، أو تراجع الولايات المتحدة عن  وعودها -التي كانت مدعومة من قبل بريطانيا وفرنسا– بعدم توسيع منظمة حلف شمال الأطلسي إلى أوروبا الشرقية، وهذا هو الذي أثر في النهاية على قرارات السياسة الخارجية لبوتين.

وبدلاً من ذلك، تعتمد وسائل الإعلام الإخبارية، على روايات تاريخية غير دقيقة مثل الادعاء بأن بوتين يريد إعادة تأسيس الاتحاد السوفيتي، في حين أنه في الواقع يلقي باللوم على التحول إلى  الشيوعية، والذي أدى إلى انحدار روسيا  على حد وصفه.

وعلاوة على ذلك، أنشأت وسائل الإعلام الإخبارية القديمة رواية ثنائية عن الخير مقابل الشر -روسيا مقابل أوكرانيا- والتي لا تقدم أي فارق بسيط في هذا الوضع المعقد.

ومن الممكن معارضة قيادة وسلوك كل من روسيا وأوكرانيا: فالأولى معارضة للحقوق المدنية والديمقراطية مع طموحات إمبريالية، والأخيرة تحكمها حكومة وصلت إلى السلطة، ليس من خلال الوسائل الديمقراطية، ولكن من قبل الولايات المتحدة -الانقلاب المدعوم الذي عمل جنبًا إلى جنب مع النازيين الجدد  المعروفين، الذين لا يزالون جزءًا من الجيش هناك.

وهذا النوع من التقارير لا يجعل الناس يفهمون تأثير مقترحات السياسة على ظروفهم المادية، ناهيك عن الشئون الخارجية.

وكان هناك انفصال مماثل عن الواقع في الأشهر التي سبقت  غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003. بخلاف ذلك، كان الأشخاص العقلانيون يؤيدون أفعالًا قاسية، مثل غزو واحتلال أمة بزعم امتلاكها  أسلحة دمار شامل، وأن زعيمهم كان مجنونًا، مثل أدولف هتلر الذي كان بحاجة إلى إيقافه.

وبعدها تبين في النهاية أن أسلحة الدمار الشامل، هي أخبار مزيفة تروّج لها حكومة الولايات المتحدة في عهد الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، وأيّدها أعضاء من الحزب الديمقراطي مثل السناتور  جو بايدن  وهيلاري  كلينتون.

المصفقين للحرب

من جانبها، أيدت وسائل الإعلام الإخبارية الغزو وخلقت الأخبار الكاذبة التي شرّعتها. كما أيّدها معظم السياسيين في الحزبين السياسيين المدعومين من شركات صناعة السلاح.

وأوجه التشابه لا تتوقف عند هذا الحد. تمامًا كما حدث في عام 2003، عندما أعاد الأمريكيون تسمية “البطاطس الفرنسية” إلى “بطاطس الحرية” -بسبب عدم دعم فرنسا للغزو الأمريكي للعراق- وحظر المواطنون الأمريكيون في عام 2022،  الفودكا وأعادوا تسمية المشروبات بأسماء ذات طابع روسي مثل  بغل موسكو.

ومثلما احتشد المواطنون حول العلم الأمريكي في عام 2003، فإنهم الآن يستعرضون  العلم الأوكراني. تمامًا كما تم سحب شخصيات مناهضة للحرب مثل  جيسي فينتورا وفيل دوناهو وبيل ماهر وكريس هيدجز  من وسائل الإعلام الإخبارية القديمة في عام 2003، عملت وسائل أخبار الشركات والتكنولوجيا الكبرى مؤخرًا على إزالة المحتوى من قبل شخصيات مناهضة للحرب ومعادية للإمبريالية، مثل  أوليفر ستون وآبي مارتن و-مرة أخرى- كريس هيدجز، والذين فقدوا منصتهم هذه المرة مع Roku و DirecTV و YouTube، وأزالوا إمكانية الوصول إلى أرشيفات RT America  سواء من خدمات الاشتراك عبر الكابل أو عبر الإنترنت.

وفي غضون ذلك، فإن نفس الأشخاص الذين كذبوا على الجمهور، وحملوهم على دعم غزو العراق عام 2003، “يخبرون” الجمهور الآن عن أوكرانيا وروسيا. ويشمل ذلك صحفيين مثل  ستيفن هايز  من  إن بي سي، الذي ظهر في برنامج  Meet the Press  على تلك الشبكة في 27 مارس كصوت خبير لوضع العدوان الروسي في أوكرانيا في سياقه. وفي عام 2004، دعم هايز الغزو الأمريكي للعراق من خلال  الادعاء الكاذب  بأن صدام حسين كان على صلة بالقاعدة.

صدام حسين

وفي 27 فبراير 2022، ظهرت كوندوليزا رايس وزيرة خارجية جورج دبليو بوش،  وكاتب الخطابات الرئاسية  ديفيد فروم  في وسائل الإعلام الإخبارية القديمة كخبراء في السياسة الخارجية. أثناء خدمتهما في إدارة بوش، واستخدم كلاهما، وسائل الإعلام القديمة  كمكبر صوت للدعاية للجمهور الأمريكي لدعم غزو العراق عام 2003.

وقد تحقق ذلك من خلال إدامة  المزاعم التي لا أساس لها من الصحة،  بأن العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه يتواطأ مع القاعدة. وعلى الرغم من حقيقة أن هذه الادعاءات قد ثبت خطؤها بعد الغزو، إلا أن أولئك الذين كرّسوا الأكاذيب؛ استمروا في الظهور  كمصادر خبيرة  في السياسة الخارجية في وسائل الإعلام الخاصة بالشركات. وهؤلاء هم نفس الأشخاص الذين توقعوا خطأً أن الولايات المتحدة “ستستقبل كمحررة” في العراق.

وبدلاً من تحميل هؤلاء المسئولين المسؤولية والاستشهاد بمصداقيتهم المتضائلة كأساس لاستبدالهم بمصادر أكثر مصداقية، فإن نقاد وسائل الإعلام الإخبارية للشركات يقدمون الأعذار لسلوكهم.

فعلى سبيل المثال، تم تقديم الأعذار لتشارلي داجاتا من سي بي إس نيوز بعد أن قال أنه لا يمكن مقارنة غزو العراق بالأحداث الجارية في أوروبا الشرقية؛ لأن أوكرانيا “أكثر تحضرا” من العراق (اعتذر لاحقا). ولم يكن هو الوحيد الذي فرق بين ضحايا الحرب المستحقين وغير المستحقين، عبر وسائل الإعلام المؤسسية.

وتتطلب السياسة الخارجية الديمقراطية استجابات مدروسة وقرارات إستراتيجية، خاصة عندما تظل احتمالية نشوب حرب نووية حقيقية للغاية. ومع ذلك، وبفضل إخفاقات الصحافة، فإن الجمهور الأمريكي في وضع سيئ ولا يسمح له بصياغة تلك القرارات. وبدلاً من ذلك، يتم قصفهم بالدعاية على شكل نقاط حديث تافهة تتنكر في شكل صحافة.

فإذا كنت ترغب في إيقاف الحرب العالمية الثالثة، فبدلاً من الاستغناء عن “بغال موسكو” أزل وسائل الإعلام الإخبارية القديمة من نظامك الغذائي، ووسّع قائمة الأخبار الخاصة بك، مع وجهات نظر ومعلومات أوسع وأكثر استقلالية وتنوعًا. فمستقبلنا الجماعي يعتمد على ذلك.

مصدر الترجمة

كريم سعد

مترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock