منذ العصر المملوكي اختلطت حكايات المغنيات بقصص الراقصات، ويرجع الأمر إلى ارتباط الفنين معا، فكانت المغنية هي من ترقص في الحفلات، وقد شاع لقب “العالمة” كإشارة إلى من تحترف الرقص والغناء, كانت البداية مع المغنية والراقصة هيفا، وكان يطلق عليها “هيفا اللذيذة” وذكرها المؤرخ محمد البقلي في كتابه “الطرب في العصر المملوكي” والمطربة كانت عشيقة السلطان قنصوه الغوري، وكان مولعا بها وتصاحبه في جلسات سمره، هذا قبل أن ينقلب عليها، فيسجنها حيث تعرضت للضرب وتوقفت عن الغناء حتى وفاتها, وظلت هيفاء نموذج “العالمة” التي تجمع بين الرقص والغناء.
في أواخر القرن التاسع عشر كان بعض الباشوات يستأجرون العوالم عند إقامة حفل، وكانت العوالم يتمتعن بمكانة ممتازة في ذلك الوقت, فكان بعض رواد الكباريهات ينثرون الذهب والفضة تحت أقدامهن, وتعد الفترة ما بين (1900 – 1920) العصر الذهبي للعوالم.
كان يصاحب “العالمة” في الغناء فرقة موسيقية صغيرة تضم بعض العازفين, وكانوا يُعرفون بالآلاتية، ويطلق على رئيسة العوالم لقب “أسطى” وكانت فرقة العوالم مكونة من ثماني سيداتٍ.. الأسطى وسيدتين للطبلة وأخرى للمزهر، وأخرى للعزف على العود، واستعيض عنهن بعد ذلك بالرجال، وكانت الرئيسة ترتدى تاجا على رأسها، وكن يؤدين أغاني كلماتها هابطة، ومن أشهر مؤلفي تلك الفترة, محمد علي لعبة، ومحمد أنور، ومحمد العاشق، والشيخ يونس القاضي، وكانت الأغاني تؤلف في قالب الطقطوقة, ومن أشهرها “سلفني بوسة من خدك” و”أوعى تزغزغنى جسمي رقيق ما يستحملش” و”جوزينى يا أمه جدع قيافة, كامل المحاسن واللطافة”, ولسيد درويش قبل شهرته عدد من هذه الطقاطيق من هذا النوع، منها “فلفل فلفل اهرى يا مهري” و”أنا مالي هي اللى قالت لي” و”روح اسكر وتعالى”.
وللشيخ زكريا أحمد العديد من هذه الطقاطيق مثل “ارخى الستارة اللى في ريحنا” ولمحمد عمر أيضا طقاطيق منها “الساعة كام يا سي محمد”.. ومن أشهر العوالم في تلك الفترة, العالمة سنية شخلع, والحاجة فهيمة, وعزيزة البيضة, واسما الكمسارية, وثريا قدورة, ورتيبة أحمد, كما كتب زياد عساف في “موسوعة الغناء المنسي” وكانت شهرة نرجس المهدية المطربة وعالمة وأسطى، قد وصلت للخارج في تركيا, وهي من أهم أسطوات المغنى في مصر في بدايات القرن العشرين، وغنت “خايف أموت قبل ما أنظرك” و”إيه العبارة” و”لو كنت شاريني” وهي أفضل صوت غني قبل ظهور سيد درويش.
وكذلك نبوية غزال المطربة، وهي مصرية عالمة وأسطى من أسطوات المغنى في زمانها اشتهرت في العشرينات وبدايات الثلاثينات من القرن العشرين، وأشهر ما غنت طقطوقة “كلام في سرك ما حد يدرى” وطقطوقة “انده لي أنا روحي عليك”.
ولمعت العالمة أمينه الصرفية، وسيطرت على هذا الوسط من العوالم؛ نظرا لكونها محظوظة السراي الخديوية في ذلك الوقت. وكانت حسبما يقال صاحبة صوت جميل للغاية, من أشهر أغاني أمينة الصرفية نذكر “يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا”.
فضلا عن المطربة سنية حسنين، وهي الوحيدة التي غنت خارج القاهرة في قهوة إبراهيم عيسى بأسيوط, ثم انتقلت إلى الإسكندرية؛ فالقاهرة وعملت بملهى بروض الفرج، وهى صورة مصغرة من الفنانة أم كلثوم, امتازت سنية حسنين بصوت مطرب عذب، ووضعت أقدامها في الصفوف الأولى بين معاصريها من المطربات فى ذلك الوقت.
وكذلك فريدة مخيش المطربة من أشهر عوالم الأفراح “المتصيتة” في الأحياء الشعبية في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، ومن أشهر أغنياتها “إديني ميعاد نتقابل سوى” و”ما أحلاك يا عروسة لما تخطري” وكانت مشهورة جدا؛ حيث ضاهَت مبيعات اسطواناتها كبار المغنين آنذاك؛ مثل يوسف المنيلاوي، وعبدالحي حلمي، والشيخ سلامة حجازي.
كانت القاهرة في ذلك الوقت تسهر إلى ساعة متأخرة من الليل, ترقص وتستمع إلى المغنين والمغنيات, وكان عدد ملاهي شارع عماد الدين وحده يزيد عن ثلاثين مسرحا ومرقصا ومقهى، وكذلك الأزبكية وروض الفرج وكلوت بك.
عوالم العشرينات ومشايخهم
وفي الفترة ما بين عامي (1917 – 1935) دخل بعض عوالم الطرب تحت عباءة المشايخ، مثل الشيخ محمـــد القصبجي, والشيخ زكـــــريا أحـمـــــد, ومحمد عبد الوهاب, ورياض السـنباطي, وظل الخيط الرفيع بين طرب العوالم وعالم مشايخ التلحين والمنشدين ممتدا, لدرجة أن الأزهري الشيخ عبد العزيز البشري, كان يتحدث عن المنشدين وقُرّاء القرآن والمغنين باعتبارهم أهل طائفة واحدة، سماها “أهل التنغيم”, وكان غناء العوالم في الكباريهات في حين يغني المشايخ علي المسارح, ومع تدشين موسيقي سيد درويش وعصره وتلاميذه؛ انهارت سطوة الراقصات علي الطرب والغناء, وطوال فترة العشرينيات كانت أغاني العوالم والراقصات تبحث عن الملحن الذي يقدمها كي تكون “صَيِّطَة” وتعد المطربة فاطمة سري صاحبة السبق في تغيير شكل الغنوة، عندما غنت “بدل ما تسهر على القهوة” و”تعالى نشوي أبو فروة” وفاطمة سري رغم كونها مطربة من العوالم، إلا أنها أول مصرية غنت أوبرا كاملة في “شمشون ودليلة” وغنت فريدة مخيش “إيه ده يا أفندي” و”اختشى عايز تبوسني في الشارع” وغنت نعيمة المصرية “تعالى يا شاطر نروح القناطر” وكان الشيخ زكريا أحمد يقدم معظم هذه الألحان, فبعد شهرة سيد درويش حرصت الراقصات المطربات علي وجود ملحن من مشايخ الموسيقي في ذلك الوقت, وسجلت أوديون عام 1912، اسطوانة بمؤثرات صوت المطربة بهية المحلاوي, ومعها الراقصة شفيقة ويظهر صوت به إيحاءات وصرخات دلع, تبدأ شفيقة بطلب سيجارة حشيش وشمبانيا وتغنى بهية “أول حكاية يا جمعية.. كانوا تلاتة أفندية” وتواصل التغزل فى جسد “عمك عبده” وكذلك ظهرت أغاني مثل “حِلِف إنه يمتعني”.. لعبداللطيف البنا و”عاشق وليه بتلمونى.. بين النهود احملونى” لصالح عبد الحى، وغنى محمد عبدالمطلب “أوعى تزغزغنى جسمي رقيق ما يستحملش” السابق ذكرها.
