في خلال شهرين اثنين، وفي فترة لا تتجاوز تسعة أسابيع، كان العراق عنوانا بارزا لثلاث من القمم العربية المتتالية؛ الأولى كانت قمة عَمَّان، التي جاءت تحت عنوان “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة – بغداد 2″، في 20 ديسمبر الماضي، مرورًا بـ”قمة خليجي 25″، خلال الفترة 6 – 19 يناير الفائت، والتي كانت عنوانا واضحا على عودة الاستقرار إلى العراق؛ وصولا إلى القمة البرلمانية العربية التي استضافها العراق مؤخرا في بغداد، خلال الفترة 23 – 26 فبراير.
ويعكس احتضان بغداد للمؤتمر الرابع والثلاثين للاتحاد البرلماني العربي، حرص مجلس النواب العراقي على إيلاء الدبلوماسية البرلمانية مكانة خاصة، لما تحمله من أهمية كبرى في دعم جهود العراق في العودة إلى الحاضنة العربية، ودعم نهجه السياسي الخارجي في ممارسة دور محوري في المنطقة العربية، خاصة في عددٍ من القضايا الإقليمية، مثل القضية الفلسطينية والقضية السورية.
دلالات التوقيت
واللافت أن انعقاد الدورة الرابعة والثلاثين لمؤتمر الاتحاد البرلماني العربي، الذي استضافه العراق، جاء بمشاركة عربية واسعة من رؤساء وممثلي البرلمانات العربية؛ بعد انقطاع دام نحوا من أربعين سنة، منذ آخر دورة برلمانية عربية عُقِدت في العراق.
وفيما أعلن المركز الإعلامي للبرلمان العربي أن المؤتمر “يُعقد من أجل حشد الدعم العربي للعراق، ومساندته في جهوده نحو تثبيت الأمن والاستقرار، وحفظ سيادته، انطلاقا من أن أمن واستقرار العراق، يُعد من أهم المرتكزات التي يستند عليها الأمن العربي”؛ فإن دلالات التوقيت تتضح عبر ملاحظة أكثر من جانب:
أولها: النشاط الدبلوماسي الذي يحاوله رئيس البرلمان، ورئيس الوزراء العراقي أيضا. فقد قام الحلبوسي، خلال الأسابيع الأخيرة بزيارة إلى الجزائر، في 26 يناير الماضي، ركزت على ضرورة توسيع فرص ومجالات التعاون بين البلدين؛ هذا رغم أن الغرض من الزيارة كان المشاركة في اجتماعات اللجنة 17 لمؤتمر اتحاد مجالس الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي. أما محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء، فتأتي زيارته المرتقبة لمصر، وقبلها زيارته الأخيرة للإمارات؛ بما يحاوله من سعي دءوب لتوسيع نطاق العلاقات مع السعودية، ومختلف دول الخليج، الذي هو بوابة العراق العربية.
ثانيا: هناك “مشروع إعلان بغداد” الذي أعلنه الاتحاد البرلماني العربي خلال المؤتمر؛ والذي أكد فيه المجتمعون على “دعم العراق، وضرورة توفير كل ما يلزم لتعزيز استقراره وسيادته ووحدة أراضيه”. كما تضمن الإعلان أيضًا تشديد المؤتمر على ضرورة تفعيل الدبلوماسية البرلمانية، لتكون مؤثرا إيجابيا وفاعلا في دبلوماسية البلدان العربية؛ بالإضافة إلى تأكيد المجتمعين على أهمية الدور العراقي وفاعليته على المستويات العربية والإقليمية والدولية.
ثالثا وأخيرا.. جاءت القمة في وقت تتصاعد فيه حدة الخلافات بين إيران وبعض القوى العربية، المشاركة في القمة، على غرار السعودية؛ فقد توقف الحوار السعودي الإيراني، الذي شهد “خمس” جولات برعاية رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، خلال الفترة من أبريل 2021 إلى ديسمبر 2022؛ وذلك في ظل الخلافات العالقة بين الطرفين حول العديد من الملفات، أهمها الملفين اليمني والنووي.
دوافع متعددة
رغم أن دعم أمن واستقرار العراق، وتعزيز العلاقات بينه وبين محيطه الإقليمي، كان العنوان الأبرز للقمة البرلمانية العربية، في النسخة الرابعة والثلاثين لها، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة ملفات أخرى، جاءت ضمن الدوافع إلى عقد هذه القمة في العراق.
أهم هذه الملفات.. يمكن تناولها على النحو التالي:
أولًا: عودة العراق فعليا إلى “الحاضنة” العربية؛ يمكن اعتبار عقد المؤتمر البرلماني العربي ببغداد، أحد المؤشرات القوية على عودة العراق إلى محيطه العربي، خاصة أن انعقاد هذا المؤتمر يأتي بعد أسابيع قليلة فقط، من احتضان البصرة بنجاح لبطولة كأس الخليج العربي لكرة القدم “خليجي 25″؛ ما يعني أن العراق بات مؤهلًا لاستضافة مختلف المحافل والمناسبات العربية، بما يُعزز حضوره عربيًا.
كما أن عقد هذا المؤتمر البرلماني “العربي” في بغداد، يُعد مؤشرا مُهمًّا على أن العراق مُقبل على مرحلة جديدة من تعزيز التكامل والتنسيق مع الدول العربية، وبما يضمن استثمار قدراته وطاقاته الكبيرة، والتي يُمثل العرب عاملا محوريا في تفعيلها وتوظيفها سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وفي مساعدة العراقيين للتغلب على ما يعترضهم من أزمات ومشاكل؛ خاصة أن علاقات العراق مع محيطه العربي، تشهد تناميا متزايدا خلال السنوات الأخيرة.
ثانيًا: استقطاب عربي حول قضايا فلسطين وسوريا؛ إضافة إلى ما يُمثله انعقاد المؤتمر البرلماني العربي في بغداد، من مؤشر مهم على عودة العراق إلى الحاضنة العربية؛ فقد تبدى بوضوح، كما جاء في البيان الختامي له، توحيد المواقف البرلمانية للعرب تجاه القضايا المهمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والقضية السورية، وهي القضايا التي عبرت عن أولويات بالنسبة لهذه القمة البرلمانية؛ فمع تأكيد الاتحاد البرلماني في بيانه الختامي، على موقف التضامن الراسخ لكل جهد يصب في دعم القضية الفلسطينية، ومطالبة مجلس الأمن الدولي بـ”حل مشكلة الشعب الفلسطيني بإنشاء دولة مستقلة له عاصمتها القدس” – أعلن المجتمعون أيضا تضامنهم مع سوريا، وتشكيل وفد من الاتحاد البرلماني العربي للتأكيد على دعمها واستمرار تقديم الإمكانات اللازمة للوقوف معها، بعد حادث الزلزال المدمر الذي ضرب بعض مناطقها الشمالية.
ثالثا: توجيه رسائل سياسية مناوئة لطهران وأنقرة؛ كان المؤتمر فرصة لتوجيه بعض الرسائل السياسية المناوئة، وإن كان بعضها بشكل غير مباشر، إلى القوى الإقليمية غير العربية، خصوصًا إيران وتركيا؛ بهدف عدم التدخل في الشئون الداخلية للعراق. فقد دعا رئيس الوفد العراقي للمؤتمر، محسن المندلاوي، وهو النائب الأول لرئيس البرلمان، إلى “اتخاذ موقف عربي موحد إزاء العديد من التحديات، وخصوصا ما يتعلق بملف الأمن المائي وحقوق البلدان العربية في حماية حصصها المائية من الأنهار؛ إضافة إلى تقديم الدعم لسوريا لمساعدتها في عمليات الإغاثة ومساندة المنكوبين جراء الزلزال”.
أما رئيس مجلس النواب الأردني أحمد الصفدي، فقد أكد على ضرورة “العمل العربي المشترك من أجل دعم أمن واستقرار العراق” متابعا بالقول: “نؤكد على أن أمن العراق والخليج العربي جزء لا يتجزأ من أمننا القومي العربي”.
خطوة انفتاح
في هذا السياق، يمكن القول بأن بغداد وهي تستضيف مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي، إنما تحاول إثبات قدرتها على العودة لاعبا مؤثرا في المعادلات العربية؛ فمن خلال انعقاد هذا المؤتمر على الأرض العراقية، في بغداد، يسعى العراق إلى تعزيز عودته لدوره الدبلوماسي الخارجي، على الصعيد العربي بصفة خاصة، فضلًا عن محاولة الحصول على الدعم العربي لاستقرار العراق وسيادته.
ومن ثم، يُمثل انعقاد المؤتمر خطوة انفتاح متبادلة بين العراق ومحيطه العربي؛ ولعل هذا نفسه ما يوضح لماذا حرص المشاركون في المؤتمر على عدم الخوض في التحديات الداخلية العراقية، التي يمكن أن تحد من ضرورة فرض الاستقرار في البلاد. إذ لا يمكن تجاهل أن التحديات الداخلية تُمثل معضلة أساسية، خاصة في ظل وجود مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، مثل “الحشد الشعبي” فضلا عن “الإطار التنسيقي” الذي يرتبط بولاءات خارجية، ويؤثر في الوقت نفسه على حكومة السوداني.
وبالتالي، فإن عدم الخوض في التحديات الداخلية العراقية، لا يعني في النهاية سوى محاولة “ذكية” من الوفود المشاركة، للتأكيد على أهمية خطوة الانفتاح التي يحاولها العراق تجاه محيطه العربي.