وسط شد وجذب ورفض من قبل قوى سياسية خارج الائتلاف الحاكم، ومظاهرات احتجاجية، أقر البرلمان العراقي التعديل الثالث لقانون الانتخابات البرلمانية، الاثنين 27 مارس الماضي. ويعتمد التعديل نظام “سانت ليغو” الذي تتم بموجبه الانتخابات في المحافظة الواحدة بوصفها دائرة انتخابية واحدة، بعد أن كانت دوائر متعددة في الانتخابات الأخيرة.
وعبر بوابة تعديل قانون الانتخابات، واعتماد معادلة جديدة سياسيًا، يعيش العراق حالة من الجدال الحاد، بين القوى السياسية المختلفة، بين داعم لهذا التعديل ورافض له؛ الأمر الذي يُثير تساؤلات متعددة حول ممكنات نظام سانت ليغو ودوافعه؛ وفي الوقت نفسه حول سلبيات العمل به، ومعوقاته نسبة إلى الحالة العراقية.
اللافت، أن القانون الجديد ألزم بإجراء انتخابات مجالس المحافظات، قبل 20 ديسمبر المُقبل، لكنه ترك مسألة الانتخابات البرلمانية المُبكرة من دون تحديد سقف زمني لها؛ وهو ما يفتح الباب مجددا للتشكيك بجدية تراجع “الإطار التنسيقي”، وحكومة محمد شياع السوداني، عن إجراء انتخابات خلال عام واحد، وفقا لما ورد في برنامجه الحكومي الذي صُوّت عليه أكتوبر الماضي.
نظام انتخابي
شهد العراق عدة تحولات في قانونه الانتخابي، على مستوى النظام والدوائر وطريقة احتساب الأصوات؛ فبعد أن كان العراق دائرة انتخابية واحدة، في عام 2005، عُدّل قانون الانتخابات لتُصبح كل محافظة دائرة انتخابية واحدة، وخُصص عدد المقاعد وفقا للنسبة السكانية، وقد طُبّق ذلك في ثلاثة انتخابات متتالية، 2010 و2014 و2018، مع تعديل في آلية توزيع أصوات الناخبين عام 2014، حينما أُدرج نظام سانت ليغو للمرة الأولى، وفقًا للتعديل العراقي عليه.
ونظام “سانت ليغو”، طريقة تحمل اسم مبتكرها، عالم الرياضيات الفرنسي أندريه سانت ليغو عام 1912، وترمي إلى توزيع الأصوات على المقاعد الانتخابية في الدوائر متعددة المقاعد، وتقليل العيوب الناتجة بين عدم التماثل في الأصوات وعدد المقاعد المُتحصل عليها. وتعتمد هذه الآلية، في الدول التي تعمل بنظام التمثيل النسبي، على تقسيم أصوات الناخبين على الرقم 1.4 تصاعديًا. وكلما ارتفع القاسم الحسابي لأصوات الناخبين تقل حظوظ الأحزاب الصغيرة والمرشحين الداخلين في قوائم منفردة، لصالح الأحزاب الكبيرة التي تدخل بعدد كبير من المرشحين، وتمتلك إمكانات مالية واسعة.
وقد اُعتمد القانون في العراق أول مرة عام 2014، لكن القاسم الانتخابي في البلاد استند إلى الرقم 1.6، عوضًا عن 1.4 وهو القاسم المُطبق عالميًا؛ ما رفع من حظوظ القوى التقليدية بالسيطرة على مجلس النواب، على حساب القوى والأحزاب الأصغر. والمُلاحظ، أن القاسم الانتخابي قد ارتفع، في التعديل الأخير الذي اعتمده البرلمان العراقي منذ أيام، ليُصبح 1.9؛ ما يقلل إلى حد كبير من فرص الأحزاب الصغيرة والمستقلين والكيانات السياسية الناشئة، في الحصول على عدد معتبر من المقاعد، يُمكنها من المُعارضة داخل البرلمان.
دوافع التعديل
الجدل الذي رافق تعديل قانون الانتخابات العراقي، وفق آلية سانت ليغو، يشير إلى عدد من الدوافع.. لعل أهمها ما يأتي:
من هذه الدوافع، الفرصة المناسبة لتعديل قانون الانتخاب؛ حيث تنظر بعض القوى السياسية في الائتلاف الحاكم بالعراق، بأن الساحة السياسية اليوم مناسبة للسير قدمًا في تعديل قانون الانتخابات؛ خاصة بعد تراجع زخم الاحتجاجات الجماهيرية المعارضة التي شهدتها البلاد، في أكتوبر 2019، وبعد انسحاب زعيم التيار الصدري من البرلمان ومن المشهد السياسي؛ وفي الوقت نفسه، في ظل ما يتمتع به ائتلاف “إدارة الدولة” من أغلبية نيابية، مكنته من تمرير القانون الجديد.
وتأتي مبررات التعديل، بعد حالة عدم الاستقرار السياسي التي شهدتها البلاد، عقب انتخابات أكتوبر 2021، وما تلاها من جمود سياسي بسبب الخلاف بين قوى “الإطار التنسيقي” ونظيرتها في تحالف “إنقاذ وطن”، حول كيفية تشكيل الحكومة؛ وهو الجمود الذي استمر إلى حين نشأ ائتلاف إدارة الدولة، وتوافق على تسمية محمد شياع السوداني رئيسًا للوزراء، خلفا لمصطفى الكاظمي.
من الدوافع، أيضًا، تضاؤل احتمال معارضة التيار الصدري؛ إذ، قد لا يكون لقانون الانتخابات الجديد، الأثر ذاته على مقتدى الصدر وأنصاره، كما في حالة القوى المعارضة الأخرى، خاصة الأحزاب الصغيرة والمستقلين؛ حيث يمتلك التيار الصدري قاعدة جماهيرية، تمكّن بها من التكيف مع جميع القوانين الانتخابية السابقة، سواء كانت الدائرة الواحدة أو الدوائر المتعددة.
وكما يبدو، فقد استثمرت القوى التقليدية بشكل أمثل، “صمت” زعيم التيار الصدري حول مواقف واضحة ومحددة، منذ انسحابه من البرلمان ومن المشهد السياسي، ما جعلها تتمكن من تمرير تعديل قانون الانتخابات وفق آلية سانت ليغو؛ رغم اعتراضات المستقلين والقوى المدنية، الذي حاولوا استنهاض الصدر وتياره العريض للنزول معها إلى الشارع، لإجهاض تمرير القانون، لكن هذا لم يحصل.
من هذه الدوافع، كذلك، انحسار فاعلية حركة الاحتجاج السياسي؛ فبعد أكثر من سنوات ثلاث، من المظاهرات الشعبية الواسعة، التي شهدها العراق، في أكتوبر 2019، وأُطلق عليها احتجاجات “تشرين”، وساهمت في تغيير القانون الانتخابي واعتماد نظام الدوائر المتعددة، الذي على أساسه نُظّمت انتخابات 10 أكتوبر 2021؛ يبدو أن فاعلية حركة الاحتجاج السياسي تلك قد انحسرت، بشكل ساهم كثيرا في التقليل من فاعليتها. بل أصبح من المستبعد أن تُعيد القوة التي كانت عليها عام 2019.
سلبيات النظام
رغم السيطرة البرلمانية التي يتمتع بها ائتلاف إدارة الدولة، حيث يضم في عضويته 275 نائبًا في البرلمان العراقي، من أصل 329 نائبًا؛ ورغم النجاح الذي حققه في تمرير تعديل قانون الانتخاب؛ فإن عددًا من السلبيات يبدو في الأفق.. لعل أهمها ما يلي:
من هذه السلبيات، تشكيل برلمانٍ خالٍ تقريبا من المعارضة؛ ففي حين يرى البعض من معارضي التعديل، أن الأمر يعني التراجع عن واحدة من أهم مكتسبات ما عُرف باسم “تظاهرات تشرين”، أي إقرار قانون الدوائر المتعددة، الذي أتاح الفرصة لصعود قوى ووجوه جديدة للبرلمان، لاسيما من المستقلين؛ فإن المدافعين عن التعديل، يرون أنه من حق قوى الأغلبية طرح المشاريع وتمريرها، كونه من أبجديات النظام الديمقراطي البرلماني. وبالتالي، فإن من مصلحة قوى ائتلاف إدارة الدولية، التي تشغل أغلبية برلمانية كبيرة، تعديل القانون الانتخاب وفق نظام الدائرة الواحدة، الذي يخدمها انتخابيًا.
في هذا الإطار، تبدو أهم سلبيات التعديل الانتخابي وفق آلية سانت ليغو، تلك التي تتيح الفرصة للأحزاب الكبيرة، التي تمتلك الإمكانات المالية، والعدد الكبير من المترشحين، للفوز بالعدد الأكبر من المقاعد البرلمانية؛ في حين أنه لا يتيح نفس الفرصة للأحزاب الصغيرة والمستقلين، بما يعني تشكيل برلمان يتمتع بـ”الصوت الواحد”، أو في الحد الأدنى برلمان ذي “اتجاه واحد”، وخالٍ تقريبًا من المعارضة النيابية الفاعلة.
أيضًا، من هذه السلبيات، العزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات؛ إذ، بناءً على عدم التوافق السياسي على تعديل قانون الانتخاب، وتداعياته على الاستقرار السياسي؛ وفي إطار التوجه الواضح، نحو تشكيل برلمان ذي اتجاه واحد؛ فإن الاحتمال الراجح، في هذه الحال، هو أن التعديل سيرتد سلبًا على صعيد الثقة الشعبية بالعملية الديمقراطية، وسوف يُعزز العزوف الشعبي عن المشاركة الانتخابية.
وكما يبدو، سوف يتأكد لدى القوى الانتخابية، أو تلك التي لها حق الانتخاب، أن التعديل الذي مُرر عبر عملية التصويت عليه في البرلمان بالموافقة، يأتي نتيجة اتفاق القوى السياسية ضمن ائتلاف إدارة الدولة الحاكم، لضمان سيطرتها على السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ وهو ما قد يدفع إلى حراك شعبي بطئ، ولكنه مؤثر في الأجل المتوسط على الأقل.
اتفاق سياسي
في هذا السياق، يمكن القول بأن الخيارات ستكون محدودة لدى النواب المستقلين، أو المنتمين لأحزاب وتكتلات سياسية صغيرة، من حيث عدم امتلاكهم ما يكفي من أدوات الضغط والتأثير، وإمكانية الحصول على مقاعد معتبرة في أية انتخابات قادمة. هذا، بينما يتفوق الإطار التنسيقي في تثبيت قواعد العمل السياسي لصالحه؛ إلا إذا صحت المزاعم التي تُفيد بأن قوى شيعية متفرقة تحاول تشكيل “تحالف ثالث”، يكسر الثنائية الجامدة للتيار الصدري والإطار التنسيقي.
ومع أن كل شيء لا يزال مفتوحًا على كافة الاحتمالات؛ إلا أنه في حال بقاء الصدر صامتًا، فإن القوى التقليدية سوف تستعيد ما خسرته من أحجام انتخابية، في أي انتخابات قادمة، على صعيد مجالس المحافظات آواخر العام الحالي، والبرلمانية لاحقًا. أما إذا تدخل الصدر، وخرج من حال “الصمت” الحالي، فسوف يكون العراق أمام معادلة أخرى يصعب التكهن بنتائجها.