مع نسمات الربيع المقبلة في خجلٍ، من فرط إفساد إنسان هذا العصر للطبيعة وبكارتها، ومع نفحات عيد الفطر العطشى لمجدٍ، لم يعد هناك من يسطره بكلماتٍ من نور، تطل على حاضرنا من نافذة شاعر عربي وُلد في ربيع عام 1910، أبيات قد نظمها للعيد عندما اقترب من الأربعين من عمره، قال فيها:
“يا عيد، ما افترّ ثغرُ المجدِ يا عيد، فكيف تلقاك بالبُشرى الأناشيدُ؟! وكـيـف ينشقُّ عن أطيـافِ عزتنـا حُـلـمٌ وراءَ جفـونِ الحق مـوؤودُ؟! طالعتَنا وجراح البغي راعفـة ومـا لهـا من أسـاةِ الحيّ تضميـدُ! فتلـك رايـاتنـا خجلى مُنكَّـسةٌ فأيـن مـن دونهـا تلـك الصنـاديـدُ؟! مـا بـالـها وثَبتْ للثأر وانكفأتْ وســيـفها في قـراب الـذل مغمـودُ؟! سينجلي ليلنا عن فجر معتركٍ، ونحن في فمه المشبوب تغريد”.
إنها أبيات الشاعر السوري عمر أبو ريشة ابن مَنْبج الواقعة إلى الشمال الشرقي من حلب في شمال سوريا، والتي ينتمي إليها أيضًا ميلادًا ووفاةً الشاعر العربي البحتري، وهو من شعراء القرن 3هـ/9م وأحد أشهر شعراء العصر العباسي. أما عائلة والدته فتنتمي إلى فلسطين وتحديدًا عكا حيث وضعته أمه هناك في أوائل القرن الماضي.
كان عمر أبو ريشة في شبابه في أربعينيات القرن الماضي، في طليعة المناضلين ضد الانتداب (الاحتلال) الفرنسي لسوريا، إلى أن أعلِن الجلاء ليزول الانتداب في ربيع عام 1946، وتحديدًا يوم 17 أبريل/نيسان بعد احتجاجات عام 1945، المعروفة بانتفاضة الاستقلال، وهي المظاهرات التي استعرت في العديد من المدن السورية مثل: دمشق وحمص وحماة واللاذقية.
https://www.youtube.com/watch?v=XlPSuavtq_0
الشاعر عمر أبو ريشة كان من المؤمنين بضرورة تلازم وتآخي الشعر والحرية؛ إذ كان يرى أن الشعر هو الحرية، ومن ثم لا يجوز تقييده بالسلاسل. ومن شروط احترام الشِّعر أن يتمتع بحق حريته في التعبير؛ فهذا الفيض من الإلهام الإنساني له خصوصيته المقدسة، التي يجب ألَّا يعبث بها أصحاب المصالح من العاجزين عن إدراك المعنى السامي للشعر. ولكن حسب رأي الشاعر عمر أبو ريشة فإن هذا الشعر الذي بإمكانه أن يهز الممالك والعروش، وأن يشعل الثورات ويؤجج الحروب قد يقف منهزمًا أمام طرْف كحيل!
“تتـسـاءلـين عـلام يحيـا هــؤلاء الأشـقـيـاء، المتـعــبون ودربـهـم قفـرٌ ومرماهم هبـاء، الذاهـلون الـواجـمون أمـام نعش الكـبريـاء، الصابرون على الجراح المطرقون على الحـياء، أنـسَــتـهـم الأيـام مـا ضحك الحياة وما البكاء، أزرت بـدنـياهم ولــم تـترك لـهـم فـيها رجاء، تتساءلين! وكيف أعلم؟ مـا يـرون عـلى البقـاء، امضي لشأنك، اسكتي أنـا واحـدٌ من هـؤلاء!” (قصيدة هؤلاء) عام1970.
درس الشاعر عمر أبو ريشة في حلب ثم في الجامعة الأمريكية ببيروت، وسافر بعد ذلك إلى إنجلترا عام 1930، لدراسة الكيمياء دون أن تنقطع علاقته مع الأدب والشعر؛ خاصة وأنه قد نشأ في بيت والد ينظم الشعر، كما كانت والدته -في كثير من الأوقات- تلقي على مسامعه هو وإخوته أبيات من الشعر الصوفي. وبعد رحلته من إنجلترا إلى فرنسا، عاد عمر أبو ريشة إلى حلب ليشترك في الحركة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي، ما تسبب في سجنه عدة مرات.
ومع الأدب والشعر تنقل أبو ريشة بين الحزن لموت حبيبته والتصوف تارة، وبين اللهو والمرح والأمل تارة أخرى؛ فكتب دواوين شعرية مثل: بيت وبيان، ونساء، وغنيت في مأتمي، ومجموعة شعرية بعنوان من وحي المرأة، وديوان نظمه باللغة الإنجليزية بعنوان Roving alone. وله أيضًا مسرحيات شعرية مثل: تاج محل، ومحكمة الشعراء، وسميراميس، ورايات ذي قار، والطوفان، والحسين بن علي.
تولى الشاعر عمر أبو ريشة إدارة دار الكتب الوطنية في سوريا، ثم عمل سفيرًا لبلاده في الفترة (1949-1971) في عدة دول مثل: البرازيل والأرجنتين والهند والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية، وتوفي في مدينة الرياض بالسعودية عام 1990 وهو في الثمانين من عمره بعد تعرضه لجلطة دماغية، وتم دفن جثمانه في مسقط رأسه بحلب.
كان الشاعر عمر أبو ريشة مؤمنًا بقضايا أمته العربية والإسلامية، وبضرورة وحدة الوطن العربي وحصوله على الاستقلال، وكانت القدس من أكثر المدن التي حظيت بنصيب وافر من شعره، إذ كانت حاضرة في وجدانه وعلى لسانه، كما ظل متمسكًا بموقفه الداعم للقضية الفلسطينية، وانتقاده لتخاذل بعض السياسيين العرب في مقاومة الاحتلال الصهيوني.
“هانت الخيل على فرسانه وانطوت تلك السيوف القطع، والخيام الشم مالت وهوت وعوت فيها الرياح الأربع، والذليل العبد دون الباب لا يغمض الطرف ولا يضطجع، والبطولات على غربتها في مغانينا جياع خشع، هكذا تُقتَحم القدس على غاصبيها هكذا تُستَرجع”.
وفي عام 1943، نظم الشاعر الكبير عمر أبو ريشة قصيدة “يا شعب” التي يهجو فيها ضعف ولاة الأمر واستكانتهم عن تحقيق العزة لشعوبهم قائلًا:
“يا شعب لا تشكُ الشقاء ولا تُطل فيه نواحَك، لو لم تكن بيديك مجروحًا لضمدنا جراحك، أنت انتقيت رجال أمرك وارتقبت بهم صلاحك، فإذا بهم يرخون فوق خسيس دنياهم وشاحك”.
وفي عام 1945، وبعد خروجه من السجن ألقى في حفل افتتاح دار الكتب الوطنية في حلب قصيدته “هذه أمتي”.
“عزَّت الأم بالبنين اعتزاز الروض بالباسقات من أفنانه، يا لذكرى تلفَّت المجدُ ما بين يديها إلى ربيع زمانه، يوم هزَّ البدوي معوله الصلد وأهوى به على أوثانه، فتهاوت على عباءته الدنيا ورفَّت على صهيل حصانه، فإذا الشرق للعروبة طود تتشظَّى النجوم فوق رِعانه،كل صرحٍ للحق في الأرض باقٍ نحتته العلياء من صوَّانه، هذه أمتي .. فيا لَشراعٍ يتلقى العبابَ في هيجانه، علَّمته الأنواء أن يزدريها ويجر المرساة في شطآنه”.
أما بعد النكبة وفي عام 1948، نظم أبو ريشة قصيدة بهذا العنوان يقول مطلعها: “أمتي، هل لكِ بين الأمم منبرٌ للسيف أو للقلم؟!”
https://www.youtube.com/watch?v=i0PypgVS2Ew
كان الشاعر الكبير عمر أبو ريشة مهمومًا بمسألة الحرية، وحالمًا باستعادة المجد والعزة للأوطان، وتخللت تلك المشاعر قصيدته (قيود) التي نظمها في ريعان شبابه عام 1937 قائلًا فيها:
“نوح المآذن ما يزال بمسمعي تدوي به الآصال والأسحار، أقسى جراح المجد جرح لم تكن تقوى على تضميده الأحرار، لا عشتُ في زهو الشباب منعَّمًا إن نال من زهو الشباب العارُ”.
كما تساءل في العام نفسه في قصيدته “لمن؟”عن الحُلم الذي يداعب خيال الأحرار فإذا به يُرَى كضلال!
“لمن تعصر الروح يا شاعر .. أما لضلال المُنى آخر؟! رويدك لا تسفحن الخيال .. ببيداء ليس بها سامر، دع الحُلم يخفق في ناظريك .. فموعده غدك الساخر!”
أما قصيدة “صلاة” عام 1948، فيقول فيها الشاعر الكبير عمر أبو ريشة:
“ربِّ .. هذي جنة الدنيا عبيرًا وظلالًا، كيف نمشي في رُباها الخضر تيهًا واختيالًا؟! وجراح الذل نخفيها عن العز احتيالًا، رُدَّها قفراءَ إن شئتَ ومَوِّجْها رمالًا، نحن نهواها على الجدب إذا أعطت رجالًا!”
ومن أشهر قصائد الشاعر عمر أبو ريشة الوطنية قصيدة “عروس المجد” التي نظمها عام 1947، وألقاها في حفل تذكاري أقيم في حلب ابتهاجًا بجلاء الفرنسيين عن سوريا، ولقد تغنت المطربة السورية سلوى مدحت بكلمات هذه القصيدة، التي لحنها الموسيقار اللبناني فيلِمون وهبي.
“يا عروس المجد تيهي واسحبي في مغانينا ذيول الشهب، لن تري حفنة رمل فوقها لم تعطر بدما حُرٍّ أبيّ، درج البغي عليها حقبة وهوى دون بلوغ الأرب، لا يموت الحق مهما لطمت عارضيه قبضة المغتصب! يا عروس المجد طال الملتقى بعدما طال جوى المغترب، كم لنا من ميْسلون نفضت عن جناحيها غبار التعب، فدعوناكِ فلم نسمع سوى زفرة من صدرك المكتئب، وأرقناها دماء حرة فاغرفي ما شئت منها واشربي، شرفُ الوثبة أن ترضي العُلا غُلِب الواثبُ أم لم يُغلَب، ضلت الأمة إن أرخت على جرح ماضيها كثيف الحجب، ما بلغنا بعد من أحلامنا ذلك الحُلم الكريم الذهبي!”
كما نظم الشاعر عمر أبو ريشة واحدًا من الأناشيد الوطنية السورية وهو نشيد “في سبيل المجد” الذي قام بتلحينه الأخوان اللبنانيان أحمد ومحمد فليفل.
ولقد كان الشاعر عمر أبو ريشة من المتأملين للطبيعة والمهتمين بوصفها وذلك منذ أن كان في ريعان شبابه. ففي قصيدته “الروضة الجائعة” عام 1938، يصف إحدى رياض مدينة حلب في ليلة من ليالي الخريف.
“أفي هذه الليلة المقمرة أهيم بأرجائك المقفرة؟ عرفتُ الذهولَ الذي قادني إليكِ فأحببتُ أن أنكره، لك الخير يا روضتي لم أجد سواك مواسيةً خيِّرة، أتيت لأنسى فما لي أرى الهواجس كالسحب الممطرة؟! ألا أين عُرس الجمال السنيّ على ذيل يقظتك المبكرة؟! تلوَّيتِ فوق زنود الخريف على وهج لذته المنكرة، ولمَّا تعرَّيتِ لم تسمعي سوى ضحكة منه مستهترة، فأصبحتِ خلف جبين الحياة وأحلامها فكرة مضمرة، حنانك لا تفلتي الذكريات على وحشتي صورًا مصحرة، فبي مثل ما بكِ لكنما أبت كبريائي أن تظهرَه!”
وفي قصيدة أخرى بعنوان “البلبل” نظمها الشاعر عمر أبو ريشة عام 1944، يتضح جليًّا رفض الشاعر عمر أبو ريشة لذل القيود وضياع الحُلم وسقم العيش بدونه، وذلك من خلال تصوير بديع لحال بلبل حبيس ينوح في أسره.
“حُلم تخلَّى عنه في رغده هل يقدر النوح على ردِّه، لو يعلم الصياد ما صيده لم يجعل البلبل في صيده، ألفيته ينثر ألحانه كأنما ينثر من كبده، وإلفه المشفِق ظلٌّ له باق كما كان على عهده، أسقمه العيش على وفره لمَّا رآه ليس من كده، طوى المنى نوحًا ولكنما لم يغنه النوح ولم يجده، فعافَ دنياه ولم يتخذ عشًّا ولم يحمل سوى زهده، كأنه من طول ما مضَّه من عبث الدهر ومن كيده، أبى عليه الكِبر أن يورثَ الأفراخ ذل القيد من بعده!”
وفي سياق تصوير أجواء الربيع الموحية بالغرام، كان الفراق هو السمة المميزة لشعر عمر أبو ريشة، ويتضح ذلك في قصيدته الشهيرة “في موسم الورد” عام 1946، والتي تغنى بها المطرب عبد الغني السيد ولحنها الدكتور يوسف شوقي.
“هنــا في موســـم الوردِ تلاقَيْنــا بـلا وَعْــــدِ، وسِرْنا في جــلال الصمـتِ فـوق مناكبِ الخُلْـــدِ، وفـي ألحاظنا جــوعٌ عـلى الحرمـان يستجـــدي! وأهـوى جيدكِ الــــريان متكئــًا علــى زِنـــدي، فكُنــا غفـوةً خرســـاء بيـن الخَدِّ والخَـــــدِّ، مُنـى قلـبي أرى قلبـــكِ لا يبقـى عــلى عَهْـــدِ، أسـائـلُ عنــكِ أحــلامي وأُسكتُهـــا عــن الــرَدِّ، أردتِ فنـلتِ مــا أمَّـلتِ مَن عِـزّي ومـن مجـــدي، فأنــتِ اليــوم ألحانـــي وألحــانُ الدُّنـى بَعْـــدي، فمـــا أقصـرَه حُبَّـــا تـلاشى وهــو في المَهْــدِ، ولـم أبـرحْ هنـا فـي ظـل هذا المُلتَقى وحدي!”
وحتى في تأمله للطيور كان جليًّا ما أوحت به إليه، وما حرَّكته في أوصاله وذلك عندما نظم قصيدته (بعض الطيور) عام 1964، وكانت عن غناء الطيور وهي تحتضر.
“ما أحزن الوردَ لم يُعرَف له عبق .. وأضيع الغصنَ لم يُقطَف له ثمر! لا تسأليني ما ترجوه أغنيتي .. بعض الطيور تغني وهي تحتضر!”
وهكذا لم يكن الشاعر الكبير عمر أبو ريشة –رحمه الله– سوى ذلك البلبل الذي ما زال تغريده عذبًا في تلك الروضة الجائعة لكل كلمة صادقة، والذي سيظل صدى كبريائه الشعري موحيًا لكل صاحب قلم وكل ذي كلمة ورأي بأن يستمد من نسمات الحياة معنًى ساميًا من معاني الحرية.