رؤى

البشر والإنسان.. وتشاركية “المادة الأولى” للحياة

لعل من قائل يقول، لقد اقترن الخلق بالبشر كما اقترن بالإنسان؛ فما الفارق إذن؟

هذا التساؤل الذي واجهنا، عبر محاولة التوصل إلى الإجابة عن التساؤل الرئيس: أيهما أولًا.. الإنسان أم البشر، بخصوص مسألة الخلق؟ وهو تساؤل ضروري بل مُلح، من منظور الاختلاف الحاصل في محاولة الإجابة عليه من جانب عددٍ من المجتهدين المحدثين، ونعني تحديدًا: المفكر السوري محمد شحرور، والمفكر السوداني حاج حمد، اللذين يختلفان في أطروحاتيهما عن أطروحة المفكر العراقي عالم سبيط النيلي.

ولعل مثل هذا الاختلاف، هو ما يدفعنا إلى محاولة الاجتهاد في الإجابة، على التساؤل المُثار، عبر تدبر آيات الله البينات، بخصوص مسألتي “الخلق”، و”الجعل”. والملاحظ، أنه عند لحظة “الخلق”، والأمر الإلهي للملائكة بالسجود، لم تتساءل الملائكة عن عملية خلق البشر، أي عن المخلوق، أو عن أفعاله، مع ملاحظة أنهم امتثلوا لأمر الله في السجود؛ وذلك على عكس تساؤلهم بالنسبة إلى عملية “جعل آدم خليفة”. هذا، فضلًا عن “إبليس” الذي يُعلن عن استكباره في لحظة الاستخلاف وليس في مبتدأ الخلق البشري.

ولعل هذا ما يتأكد عبر قوله تعالى: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ٭ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٭ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٭ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ” [ص: 71-74]. وهنا، لنا أن نلاحظ أن استكبار إبليس جاء بعد “التسوية” و”نفخة الروح”، أي في اللحظة التي أصبح فيها آدم يختلف عن ما كانت عليه “البشرية” من قبله، وبالتحديد في اللحظة التي أصبح فيها آدم جاهزًا ليكون “خليفة”.

بل، إن الأمر يبدو بصورة واضحة عند تأمل الآيات التي ورد فيها “الجعل” مقترنًا بالإنسان، وتكليفه بأن يكون خليفة في الأرض.

كيف؟

الإنسان والجعل

لعل نقطة الانطلاق في الإجابة عن التساؤل: أيهما أولًا في مسألة “الخلق”.. البشر أم الإنسان؟ هي مسألة “الجعل”؛ من حيث كونها وردت مقترنة بالإنسان، ولم ترد مقترنة بالبشر إلا في آية واحدة، وفي معرض “النفي”.. نفي “الْخُلْدَ” عن البشر؛ كما في قوله سبحانه: “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ” [الأنبياء: 34].

أيضًا، تتبدى الإجابة في آية من آيات التنزيل الحكيم، ورد فيها الخلق مع الجعل، في حال الاقتران بالإنسان؛ نعني قوله تعالى: “إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا٭ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا” [الإنسان: 2-3]. وهنا، يتضح كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان “سَمِيعًا بَصِيرًا”، وهي صفات لم يأت ذكرها مقترنة بـ”البشر”؛ وفي الوقت نفسه، فقد هدى الله سبحانه وتعالى “الْإِنسَانَ… السَّبِيلَ”، وترك له حرية الاختيار “إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا”؛ وهو تخيير لم تأت آيات الله البينات على ذكره بالنسبة إلى “البشر”.

أضف إلى ذلك ملاحظة هامة.. تتعلق بآيات الذكر الحكيم، التي وردت فيها مسألة خلق الإنسان والجان والبشر، معًا؛ نعني قوله سبحانه وتعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٭ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ٭ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” [الحجر: 26-28]. هنا، يمكن ملاحظة أن “الْجَانَّ” قد خلقه الله سبحانه “مِنْ قَبْلُ”؛ وفي حال التساؤل عن “مِنْ قَبْلُ” مَنْ(؟)؛ تكون الإجابة، من خلال سياق الآيات، بمعنى “مِنْ قَبْلُ… الْإِنْسَانَ”.

إلا أن الملاحظة الأهم، هنا، تتعلق بخلق كل من الإنسان والبشر.. حيث تؤكد الآيات أن خلق كل منهما كان من نفس المادة، أي “مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”.

وقد زعم العديد من المفسرين، أن “الصَلْصَالٍ” هو الذي يُحدث صوتًا يرنّ؛ بينما الصلصال، على الأصل، هو “الخلاصة المتركزة في نقطة”؛ وكما يؤكد عالم سبيط النيلي في كتابه: “أصل الخلق وأمر السجود”، فإن المفردة صارت بعد ذلك، أي بعد الأصل اللغوي، اصطلاحًا، فسُميت به البقعة البيضاء في الفرس الأدهم، والقطرات الأخيرة من الماء الجاري؛ ثم، أصبحت وصفًا: فكل ما يُحدث صوتًا مشابهًا لصوت الماء، قيل له “يُصلصل”، وإذا جف الغدير فلم يبق منه إلا القليل، قيل له “صل”.

أيضًا، من حيث “الحمأ المسنون”، فقد أخطأ المفسرون، إلا من رحم ربي، خطأً لا يُغتفر من حيث اللغة؛ وذلك عندما زعموا أن “حَمَإٍ مَسْنُونٍ” هو “الطين الأسود المنتن”، وهو خطأ فادح، ليس لغويًا فقط، ولكن فكريًا وعقائديًا أيضًا. إذ، “مَسْنُونٍ” هو الموضوع في سنه وشرعة ومنهاج من الأصل، ولا علاقة له بما زعموا. ولنا أن نلاحظ أن المفعول منه “متسنه”، كما في قوله تعالى: “قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ” [البقرة: 259]؛ وكما يبدو، فإنهما فعلان منفصلان، سَنِه: تبدل وتغير فهو متسنه، والآخر: سُنَ يسَنٌ فهو مسنون، أي منضبط على “سنة إلهية”.

وبالتالي، فإن “صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”، هي المادة الأولى للحياة، أي المادة التي وضعت في شرعة ومنهاج “مسنون”، ولها قدرة على حماية نفسها بقوة ذاتية، على البقاء بالانقسام والتكاثر.

ملاحظة أخرى، في السياق ذاته.. ففي قوله سبحانه: “خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ” [الرحمن: 14]؛ التبس على كثير من المفسرين الأمر، كما التبس عليهم في غيره. إذ، “َالْفَخَّارِ” ليس المفخور بالنار، كما قالوا؛ بل، “المتفاخر” في ذاته والمتميز على أشباهه. فتلك المادة الأولى للحياة، التي شحنها البارئ بقوة البقاء، هي خلاصة من مكونات الأرض “طين”، سُنت وفق منهاج معين “مسنون”، وحُميت ذاتيًا بقوة البقاء “حمأ” ثم صارت فخارة على المادة التي جُبلت منها “فخار”. ومن ثم، “صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ” تؤشر، من حيث الدلالة، ومن حيث إن “الكاف” هو حرف تشبيه، إلى المادة الأولى للحياة، التي تتماثل وتتشابه مع الفخار الذي يتفاخر بذاته ويتميز على أشباهه.

ولنا أن نتأمل، تأكيدًا على ذلك، اصطلاح “مُخْتَالٍ فَخُورٍ”، في قوله سبحانه وتعالى: “وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” [لقمان: 18]. إلا أن التنزيل الحكيم، وإن كان يؤكد لنا التشارك بين الإنسان والبشر في المادة الأولى للحياة، أي “صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”؛ إلا أنه، في الوقت نفسه، يؤكد على مسألة أخرى خاصة بـ”التسوية” و”نفخة الروح”.

نفخة الروح

في سورة “ص”، يقول سبحانه: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ٭ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ٭ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ٭ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ” [ص: 71-74].

وفي سورة “الحجر” يقول تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ٭ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ٭ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ٭ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ٭ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ٭ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ٭ قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ٭ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” [الحجر: 26-33].

وعبر مقارنة آيات التنزيل الحكيم، لنا أن نلاحظ أن الخطاب عن “التسوية” وعن “نفخة الروح”، إنما هو خطاب مستقبلي يخص البشر.

فمن جهة، في حال الفعل الماضي “خَلَقْنَا”، نلاحظ قوله سبحانه: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ… وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ…”؛ وهو يتضمن “تقديمًا” على ما أراد سبحانه وتعالى تبيانه وشرحه، عبر صيغة الحاضر والمستقبل: “إِنِّي خَالِقٌ” و”فَإِذَا سَوَّيْتُهُ”. وهنا، يمكن الاستنتاج بأن الملائكة لم تسجد للإنسان، ولكن سجدت لبشر تمت تسويته وتم نفخ الروح فيه.

من جهة أخرى، لم ترد التسوية ونفخة الروح إلا بخصوص البشر، ولم ترد بالنسبة إلى الإنسان.. وهنا، نكون أمام احتمالين: إما أن يكون الإنسان شيء، والبشر شيء آخر؛ وهو، كما يبدو، لغويًا وعقائديًا ودلالة، غير صحيح؛ من حيث إن مكونات كل منهما واحدة “صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”.. ومن ثم، لا يكون لدينا سوى الاحتمال الآخر؛ أي أن يكون البشر مرحلة والأنسنة مرحلة أخرى.

بل، وأن تكون المرحلة التالية هي أكثر رقيًا من الأولى، عبر التسوية ونفخة الروح؛ بدليل عبارة “فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ” [ص: 73 & الحجر: 30]، التي وردت في السياقين، لتدل على أن البشر بعد التسوية ونفخة الروح، أصبح في مرحلة أخرى، ووضعية أخرى، مختلفة، عما كان عليه هؤلاء البشر من قبل.

بل، هذا ما يؤكد أن البشر والإنسان يتشاركان في مسألة الخلق، من حيث مكونات المادة الأولى للحياة؛ وأن اعتراض “إِبْلِيسَ” جاء على البشر الذي خلقه سبحانه “مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ”؛ كما جاء ذكره في قوله سبحانه وتعالى “قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ٭ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” [الحجر: 32-33].

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock