“كنتُ إلى هذا الوقت، شديد الاضطراب والذهول تجرى في جسمي الصغير كلّه رِعْدة ما أحسستها من قبل، حتى إذا سمعت هذا الصوت الحلو يتلو هذا الكلام العذب كلام الله، ويتلوه في هدوء وخشوع وفي حنان ورحمة لم أملك نفسي، وإذا دمعتان تنحدران فأكفكفهما ثم أثوب إلى الشيخ، فأمنحه عقلي كلّه، وقلبي كله”. بهذه الكلمات تحدث الدكتور طه حسين عن اللقاء الأول وقبل الأخير الذي جمعه بالإمام محمد عبده.
فكثيرا ما كان يتردد اسم محمد عبده على مسامع طه حسين، فأخوه الأكبر طالب الأزهر وزملاؤه لا يتوقفون عن الحديث عنه بشغف وإعجاب، حتى أصبح حلم الصبي ابن الرابعة عشرة أن يُسمح له بالجلوس في دروس الإمام، وهذا ما دفعه إلى أن يتسلل إلى الرواق العباسي أحدث أروقة الأزهر وأكثرها فخامة ورونقا فقد أسسه الخديوي عباس الثاني كعادة الملوك في الاطمئنان إلى البناء بالحجارة والخوف من البناء في العقول.
يحكى طه حسين عن هذا اللقاء قائلا: “لن أنسى ما حييت الدرسين الوحيدين اللذين أتيح لي أن أستمع إليهما، يرجع ذلك -أولا- إلى صعوبة المغامرة، فقد كان على المرء لأن يستخدم كل ما في وسعه من حيلة لمغافلة الرقابة الصارمة للحراس الذين كانوا يقفون عند باب الرواق، لا لشيء إلا لمنع الطلاب الذين كانوا يبدون من صغر السن بحيث لا ينبغي لهم الدخول. ولم يكن من السهل بعد ذلك الإفلات من عين ” الغراب” اليقظة القاسية. وكان هذا هو الحارس الشخصي للإمام والفزاعة التي يستخدمها لطرد أي طالب عنيد. ثم يرجع ذلك -ثانيا- إلى أنه ما من شيء يمكن أن يمحو من نفسي ذكرى ذلك الصوت الذي لا نظير لعذوبة نبراته، وهو يتلو آيات القرآن الكريم.. أو لحرارة إيمانه وقد شرع في التفسير أو لقوة اقتناعه؛ وهو يحاول أن يثبت أنه لا يخرج على ما أقره العلم الحديث، وأنه لا يعارض في شيء، متطلبات الحضارة الغربية.
وكان طلابه يستمعون إليه في شغف وإعجاب، وفيما يشبه النشوة الصوفية. فإذا انتهى الدرس دار الحديث بشأنه طيلة الأمسية ودار بشأنه الغداة؛ فتحدث عنه تلامذته بحماس، وتحدث عنه خصومة بكراهية راسخة؛ وإن شابتها الرهبة. ولقد عقدت العزم على أن أواظب على الاستماع إلى دروسه؛ حتى لو اقتضى الأمر شراء رضا “الغراب”. ولكن الصحف -يا للأسف!- نشرت ذات يوم حديثا للخديوي ألقاه حينذاك على جمع من الفقهاء، وحمل فيه ولي الأمر حملة شعواء على كل تجديد وكل مجدد؛ وكان الشيخ محمد عبده هو وحده المقصود بذلك الحديث. وأدرك الشيخ مغزى التحذير فأوقف دروسه انتظارا ليوم أفضل. غير أن ذلك اليوم لم يأت قط؛ ففي الحادي عشر من يوليو من ذلك العام أي ١٩٠٥، تُوفي الشيخ محمد عبده مريضا بالسرطان”.
رأى طه حسين في محمد عبده إيمانا بالتقدم لا يقل عن إيمانه بالإسلام، فتميّز هذا “المصلح العظيم للإسلام”، على حد تعبير طه حسين، بأن عمل بإخلاص على أن يُوفّق بين عقيدة الإسلام والتقدم، فكان من أعداء الجمود الفكري، ويرى أن التوقف عن مواجهته، إنما هو انهزام وتراجع لكنه -في الوقت نفسه- يرفض الثورات والانقلابات، فهذا من دورس الماضي القريب التي تعلّمها من فشل ثورة أحمد عرابي، فسار الشيخ محمد عبده في طريق الإصلاح المتدرج البعيد عن أشكال العنف.
احتفاء الدكتور طه حسين، بدور الشيخ محمد عبده في تطوير الأزهر، والخروج عن حالة الجمود المسيطرة على شيوخه، لم يمنع حسين من نقد الشيخ، فبعد أن وصفه حسين بـ “سيد الأزهر دون منازع، المحبوب من قلة قليلة، مرهوب الجانب من الجميع”، رأى حسين أن التطوير الذي أحدثه الشيخ في برنامج التعليم الأزهري غير كافٍ، فهو وإن درّس في الأزهر لأول مرة التاريخ والجغرافيا والأدب والرياضيات، ما من شأنه أن يُوقظ فكر الطلاب، ويُوسع آفاقهم، إلا أنه لم يفتح الباب أمام الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية، “وحرّم على نفسه كما حرّم على غيره ذكر الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية؛ فقد كانت تلك أسماءٌ يقف لها شعر ذلك الجيل من الأزهريين، الذين كانوا يعتقدون أن كلّ المواد التي تُدرس في المدارس المدنية ضارة كريهة ولابد أن تودي إلى التهلكة”.
من ناحية أخرى ظل الشيخ محمد عبده منحازا للقديم، فلم يبتعد عن الموروث، “فلم يكن يدرس شيئا جديدا كلّ الجدة؛ وإنما يلتمس أسس تعاليمه في أقدم الكتب الكلاسيكية، وأكثرها حظا من التوقير، فكان يُدرّس البلاغة والمنطق والتفسير؛ وكان ينصرف لهذا الغرض عن الكتب المألوفة، ويبعث المؤلفات القديمة التي لم يعدْ معاصروه يعرفون منها إلا عنواناتها”، فكان من عادته أنْ يجلس لساعات في خزانة الكتب، يبحثُ بين كتبها القديمة عما يصلح لطلابه.
درّس عبده كتب التراث القديمة بمنهج جديد تماما، مثّل “خروجا كاملا على الإسكولاتية الأزهرية. فقد كان يبدي الإهمال –عامدا ومغاليا في بعض الحالات– بالقياس إلى كل ما له علاقة بالألفاظ، بينما يولي عناية فائقة لكل ما يتعلق بالأفكار، وكان يحرص أشد الحرص على كل ما من شأنه أن يحفز إلى التفكير والتمعن، وكان يسائل تلاميذه، ويحثهم على أن يسائلوه؛ ثم كان يحاول أن يدفعهم إلى الإجابة، ويناقش إجاباتهم وينتهي بذلك إلى أن يفتح لهم آفاقا غير معروفة، ولقد غرس فيهم الرغبة في الاطلاع والنقاش، ودفعهم إلى حب حرية الفكر، وعلمهم التعبير عن آرائهم، ولعل هذا هو ما سيبقى منه على وجه التأكيد؛ فذلك هو إنجازه الحقيقي الراسخ.
ولا شك أن الشيخ محمد عبده هو محرر العقل في مصر. فلم يكن يحضر دروسه الأزهريون فقط، وإنما كان يأتي للاستماع إليه كثير من الأفندية، من المحامين والقضاة والأطباء، ولعلهم كانوا أقدر على تذوق هذه الدروس من الطلاب المعممين”.
وبينما يعترف الدكتور طه حسين بالأثر الكبير الذي أحدثه الأستاذ الإمام في العقل الشرقي والعالم الإسلامي، فمما لا شك فيه “أن الشيخ محمد عبده قد هز العالم الإسلامي بأسره وأيقظ العقل الشرقي وعلم الشرقيين أن يحبوا حرية الفكر. ولا ريب أيضا في أنه أتاح للكثير من المسلمين، أن يتطلعوا بأمل راسخ إلى يوم يتحقق فيه التوفيق بين العلم والدين، بين التقاليد الشرقية والحضارة الغربية”.
لكن العالم الإسلامي من منظور طه حسين -بعد ربع قرن على رحيل الشيخ- حدثت به تغييرات كبيرة “ففي الثلاثين سنة الأخيرة تزايدت الصلات بين مصر وأوروبا، ووقعت الثورة التركية التي أطاحت بالاستبداد والملوك، ونشبت الحروب التي قضت تماما على هيمنة تركيا، وألغتْ الخلافة ومنحت شعوب الشرق نظما ديمقراطية لم يكن لهم بها عهد على الإطلاق”.
وهذا ما يجعل “أفكار محمد عبده بشأن العلم والدين بالية، فهي ليست بالأفكار التي مضى عليها زمن طويل، ولكنها لم تعد تتواءم مع انطلاق الشرقيين نحو الحرية الكبرى. وقليل هم المسلمون الذين يهتمون بالتوفيق بين إيمانهم والمعارف التي حصّلوها. وهم يندفعون بابتهاج نحو الحضارة الغربية ويتخذونها مثلا أعلى”.
من جانب آخر يتهم طه حسين مذهب عبده في التوفيق بين العلم والدين بأنه “لم يعد صالحا للبقاء. فقد كان يعتمد على تفسير النصوص للتوفيق بين عبارات القرآن ذاتها وحقائق العلم كما نعرفها اليوم. فما أكثر العنف الذي يمكن لهذه المحاولة أن تتناول به نص الكتاب الكريم! وما أكثر ما تعزو إلى الألفاظ من معان غريبة كل الغرابة على العرب القدماء! أفلا يجدر بالأحرى أن نتقبل العلم والوحي كما هما، وأن نعترف لكل منهما بمجاله الخاص في حياة الإنسان؟ ذلك على الأقل ما تراه الأجيال الجديدة من المثقفين الذين لم يستمعوا إلى الشيخ محمد عبده وإن كانوا قد استمعوا إلى أساتذة الغرب.
ولا شك لدي في انه عندما ينتهي تطور الشرق إلى شيء من الاستقرار- سوف يعود الناس في بلادنا بدورهم إلى التفكير من جديد في التقريب بين الدين والعلم. ولكنني لا أعتقد أن هذا سيحدث بالطريقة التبسيطية التي اتبعها محمد عبده؛ فهو رغم صدق نواياه ونقائها قد أقام أدلته – دون أن يدري – على حساب النصوص الدينية.
بيد أن هذا لن يمنع كل محب للنفوس العالية المخلصة، من أن يعترف لمحمد عبده بعلو نفسه وإخلاصه ومن أن يكن له كل ما يستحق من احترام عميق”.
بهذا اللغة المُجملة التي تجمع بين التقدير لمشروع عبده والاحتفاء به من جانب، وتفكيك المشروع ونقده من جانب آخر، تحدّث العميد عن الأستاذ الإمام، واليوم وبعد مضي قرابة قرن من الزمن هل سار الشرق في طريق تطوره إلى نقطة أبعد مما كان يقف عندها الإمام والعميد في زمانيهما؟!
مضي ما يزيد عن قرن على رحيل الإمام محمد عبده، ومازال مسار إصلاح الفكر الديني متعسرا يتحرك حركة متباطئة؛ أحاديا يتعهده رُوّاد الإصلاح واحدا تلو الآخر، غريبا غربة العقل النقدي في مجتمعاتنا، نُخبويا غير قادرٍ على التغلغل في أعماق الأوساط الدينية والاجتماعية، عاجزا عن أن يتحوّل إلى تيار عام يهزّ ضمير الأمة، ويُوقظ شعورها بالمسئولية تجاه مستقبلها.