رؤى

التعليم المصري من بدايات التراجع.. إلى وقوع “الكارثة” من (1981:1967)

بعد وقوع هزيمة الخامس من يونيو عام 1967، كان من الطبيعي أن توجّه الدولة كافة جهودها لإعادة بناء القوات المسلحة؛ من أجل العودة إلى ميادين القتال لاستعادة الكرامة وتحرير الأرض السليبة.. لذلك لم يكن من الغريب خفض الإنفاق على التعليم في كافة مراحله؛ نظرا لحاجة الدولة إلى كل جنيه للمجهود الحربي؛ لكن هذا الخفض لم يكن ذا أثر كبير أو ملحوظ؛ لأن العقد ونصف السابقة لعام الهزيمة، كانت قد شهدت اهتماما وإنفاقا فوق العادي من جانب نظام يوليو على التعليم في كافة مراحله، حتى أصبح لدى مصر بنية أساسية تعليمية يمكن الاعتماد عليها؛ لذلك ظل التعليم المصري صامدا على النحو الذي أرادته ثورة يوليو إلى عام 1973، حين بدأ السادات في الإفصاح عن نهجه الجديد.

في مقدمة كتابه “كم ينفق المصريون على التعليم”، الصادر عن دار العين، عام 2008، يصف الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق بدايات انهيار التعليم المصري بقوله: “ولم تتوفر للقيادة السياسية التي تولت شئون الحكم في الدولة بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، عمق البصيرة وبعد النظر؛ حينما لاحت لها الفرصة لتعويض ما فات بعد السادس من أكتوبر عام 1973، عبر تعزيز فرص المقايضة التاريخية والمالية مع أثرياء النفط العرب، وتدعيم نظام التعليم العام، فاندفع الرجل دون حصافة في فتح أبواب الجحيم على المجتمع وفئاته الفقيرة تحت شعارات “الانفتاح الاقتصادي” و”تحفيز الاستثمار” فتدهور دور ومكانة المدرسة العامة؛ لصالح المدارس الخاصة والاستثمارية، ولم يكد يمر عقدين من الزمان على تجربة “الانفتاح”، إلا واستيقظ المجتمع المصرى كله على حجم الكارثة التي تعرّض لها النظام التعليمي كما وصفها بحق وزير التعليم الأسبق د. حسين كامل بهاء الدين”.

مع إعلان الرئيس السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، بدأت الدولة في تبني التوجه الرأسمالي ووصم الاشتراكية بالتخلف، وبأنها السبب في ضيق الحال، وبدأت سياسات الانفتاح الاقتصادي تطال كافة المجالات؛ بما فيها التعليم الذي دعت الدولة المصرية رجال الأعمال للاستثمار فيه، بعد إطلاق ما عُرف بقوانين الاستثمار.

كانت البداية بافتتاح العديد من المدارس التي تدرّس نفس مناهج التعليم الحكومي لكن بمصروفات؛ نظير ما تقدّمه للطالب من خدمات ترفيهية وقلة أعداد الطلاب بالفصل، بعد أن ظهرت مشكلة تكدس الطلاب بالمدارس على نحوٍ واضح؛ لتشهد البلاد موجة كثيفة من إنشاء المدارس الخاصة.. ثم ظهرت مدارس من نوع آخر، تدرّس كافة المواد باللغة الإنجليزية، بمصروفات مرتفعة -إلى حد ما- والتي عُرفت بعد ذلك بمدارس اللغات.

السادات
السادات

كما شهد عام 1975، صدور قرار بإنشاء مدارس حكومية بمصروفات أطلق عليها المدارس التجريبية؛ بهدف تقديم تعليم باللغات الأجنبية لأبناء الطبقة المتوسطة التي لا تستطيع إدخال أبنائها المدارس الأجنبية؛ كذلك لتوفير خريجين مجيدين للغات الأجنبية، للتعامل مع الشركات الدولية التي دخلت الأسواق المصرية في ذلك الوقت.

ليصل الأمر في نهاية عقد السبعينات إلى مشهد تعليمي عبثي، تعددت فيه أشكال التعليم على نحوٍ هزلي بين حكومي، وخاص، ولغات وتجريبي.. ليكون ذلك سبيلا واضحا إلى تعزيز الانقسام المجتمعي؛ بالإضافة إلى إضعاف الهوية الوطنية وروح الانتماء.

هذا الواقع المستحدث أوجد حسب تعبير عبد الخالق فاروق ما يمكن “أن نطلق عليه “السوق السوداء التعليمية” Education Black Market بصورة وحشية وقاسية، فقد صاحب معه بقوة الأمر الواقع انهيارا شاملا في قيم “القدوة” و”الأستاذية” ومنظومة التربية كلها”.

وهكذا سادت فوضى شاملة بسبب تعدد الأنساق التعليمية والقيمية؛ وتلاشى أو كاد، مفهوم الهوية الثقافية واللغوية، وتراجع الاهتمام ” بالقضايا القومية التي تكفل وحدها تمتين الوحدة الوطنية؛ وتشد الناس شدا إلى المشاركة بالرأي والعمل في نهضة البلاد”.

لقد نفّذت سياسات دولة السبعينات مخططا؛ حوّل التعليم المصرى إلى سوقٍ اعتبره كثيرون مغنما هائلا، ومصدرا للإثراء السريع لا يمكن إفلاته مهما كانت المبررات، ومهما كانت العواقب وإن تعلقت بمصير الأمة وذخيرتها للمستقبل من الشباب.

التعليم

وكان من آثار تلك السياسات التعليمية الهدّامة أن تراجع الالتحاق بالقسم العلمي بالثانوي العام؛ ليصل إلى 20% فقط، بينما حصل القسم الأدبي على 80% من نسبة الطلاب، وبسبب التوجه نحو الانفتاح غير المنضبط؛ اتجه الطلاب للالتحاق بكليات التجارة طمعا في الحصول على فرصة عمل في الشركات الاستثمارية أو في الخليج العربي، ليصل عدد الملتحقين بكلية التجارة جامعة عين شمس وحدها إلى 100 ألف طالب! في حين لم يلتحق بكلية العلوم في نفس العام سوى 2% فقط من الطلاب الناجحين بالقسم العلمي!

وكانت الشهادات التي تمنحها المدارس الخاصة لطلابها في إجادة اللغات، وأشهرها “الشهادة الانجليزية”، الباب الخلفي لالتحاق أبناء كبار المسئولين بالجامعات الحكومية.

وكان من ثمار هذا الإفساد المتعمد، عدم اهتمام الدولة بإنشاء مدارس جديدة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من التلاميذ- ما أدى إلى ظهور نظام الفترتين الدراسيتين، وقد وصل الأمر بسبب التكدس ببعض المدارس إلى العمل بنظام الفترات الثلاث الذي قلّص اليوم الدراسي إلى أقل من ثلاث ساعات؛ لتكون النتيجة المباشرة لذلك مع تردي أحوال المعلمين المادية؛ انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية بشكل كبير.. والتي شكلت أحد أهم أسباب انهيار التعليم المصري، وتحولها إلى وحش مخيف يلتهم مليارات الجنيهات سنويا.. كما سنرى في المقال القادم بمشيئة الله.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock