إلى أين تتوجه الحرب الدائرة في غزة؟ ما أهدافها؟ وهل تتمكن إسرائيل من تحقيقها؟ ثم ما التداعيات المحتملة؟ وما المشاهد المستقبلية لهذا العدوان “الغربي” المستمر، طوال شهر كامل، على قطاع غزة، الذي يتجاوز عدد سكانه 2.3 مليون نسمة؟
تساؤلات متعددة، حاول المسئول الأول عن السياسة الخارجية الأمريكية الإجابة عنها وعن غيرها. ففي جلسة استماع للجنة المُخصصات بمجلس الشيوخ، الثلاثاء الماضي، أشار أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، إلى أن “الوضع الراهن الذي تتولى فيه حماس المسئولية في القطاع المكتظ بالسكان، لا يمكن أن يستمر” مؤكدًا على أن “الولايات المتحدة ودول أخرى تدرس مجموعة متنوعة من البدائل المحتملة لمستقبل قطاع غزة” في حال عُزلت حركة حماس من حكمه.. فهل هذا ممكن؟
تداعيات محتملة
تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بـ”تغيير الشرق الأوسط”، أما الرئيس الأمريكي جو بايدن فقد أعلن أنه “لا عودة إلى الوراء”؛ فيما تواصل حكومة “العدوان” الإسرائيلية القول بأنها “تعتزم اقتلاع حماس من قطاع غزة، عسكريًا وسياسيًا”. إلا أن الواقع يؤكد، بعد شهر من العدوان الهمجي الإسرائيلي على غزة، مدى صعوبة تحقيق هذه الأهداف، حتى ولو نسبيًا.
ولعل هذه الصعوبة، تطرح عددًا من التداعيات المحتملة.. أهمها ما يلي:
فمن جانب، تبدو صعوبة، إن لم يكن استحالة، القضاء على حماس؛ وهو الهدف الذي تتخذه إسرائيل كـ”ذريعة”، وكنوع من التغطية الإعلامية على جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة، بهدف إجبار فلسطينيي القطاع على النزوح واللجوء إلى مصر. ورغم المجازر، فإن فكرة النزوح لدى الفلسطينيين، لا تعني سوى أنها “تذكرة ذهاب بلا عودة”، وهي مسألة تجاوزتها من قِبل الغالبية العظمى من الفلسطينيين، خاصة أن فكرة حدوث نزوح جماعي آخر، هي فكرة تستحضر ذكريات الأحداث المؤلمة التي وقعت إبان نكبة العام 1948.
ولأن ذلك كذلك، ولأن إسرائيل لا تستطيع المضي في “الحرب” إلى فترة طويلة، نتيجة عدد من التداعيات على المستويين الإقليمي والدولي، فضلًا عن التداعيات على المستوى الإسرائيلي الداخلي؛ لذا فإن العدوان الإسرائيلي على غزة، سوف يتوقف عند لحظة معينة، بعد فاصل زمني لن يطول، عبر اختلاق “ذريعة” ما تكون حجة لتوقيف الحرب، والدخول في مفاوضات، برعاية “عربية” لتحرير الرهائن ومبادلتهم بالأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
من جانب آخر، يبدو أن ملامح هذه الحجة وتلك الذريعة، أخذة في الظهور نتيجة الفشل، حتى اللحظة، في الاجتياح البري لقطاع غزة؛ وهو ما يؤكد “عدم واقعية” إعلان إسرائيل بأن الهدف هو اقتلاع حماس والقضاء عليها، من حيث إنها لم تكن تعلم ـ وهذا فشل استخباراتي آخر، يُضاف إلى متوالية الفشل الإسرائيلية السابقة ـ أن إمكانات حماس العسكرية والقتالية، على هذه الصورة.
وبالتالي، سوف يتنامى الشعور بالتخوف من فشل الهجوم البري الإسرائيلي، على قطاع غزة، لدى صناع قرار الحرب الحقيقيين، أي الأمريكان، بما يعني انتصار حماس ومعها الجهاد الإسلامي على إسرائيل؛ وهو الاحتمال “الأكثر رُعبًا” لإسرائيل والغرب عمومًا. إذ مع استمرار تعثّر الهجوم البري، وارتفاع عدد القتلى العسكريين من الإسرائيليين، إضافة إلى “تململ” الرأي العام العالمي مما ترتكبه إسرائيل من مجازر بحق المدنيين، وتنامي الرفض الدولي لهذه الاعتداءات؛ كل ذلك سوف يؤدي إلى رد فعل عنيف سواء داخل إسرائيل أو خارجها؛ بما يعني إجبار تل أبيب على وقف “الحرب” والاكتفاء بـ”التوغل المحدود” الذي جرى والدخول في تفاوض حول الرهائن والأسرى.
من جانب أخير، فإن ما يُساعد على إجبار تل أبيب على التوقف عن الاجتياح المنشود، لديها، للقطاع، هو عدم توسيع دائرة الصراع لتتمدد على المستوى الإقليمي. صحيح أن الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، قد أشار أمس الجمعة، إلى أن انخراط حزب الله في الحرب، يتوقف على تطورات ما يحدث على الأرض في قطاع غزة؛ لكن يبقى من الصحيح، أيضا احتمال تحوّل الصراع بين إسرائيل وحماس، إلى صراع إقليمي؛ خاصة مع تنامي ردود الفعل الآتية من الجنوب حيث الحوثيون، ومن الشمال الشرقي حيث الميليشيات العسكرية الشيعية في العراق.
مشاهد مستقبلية
رغم تلك التداعيات المحتملة، تتعدد المشاهد المستقبلية، التي تخص مستقبل قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب الدائرة حاليا، خاصة أن عديد من القوى الدولية والإقليمية والعربية أيضا منخرط في إعدادها.. ولعل أهم هذه المشاهد، يبدو كما يلي:
أولًا: إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة؛ حيث يبدو أحد الاحتمالات المستقبلية، في أن تقوم إسرائيل، بمساعدة أمريكية، بالسيطرة المباشرة عسكريًا على كامل قطاع غزة، مثلما حدث من قبل عام 2005، إلا أن هذا الاحتمال، تبعًا لمجريات ما هو دائر حاليًا بين إسرائيل وحماس، ينقسم إلى أحد بعدين اثنين: الأول هو احتلال إسرائيل للقطاع بالكامل؛ في حين يتمثل الآخر، في تقسيم غزة إلى نصفين تقريبًا بين شمال محتل وجنوب فلسطيني.
وفي كلا الحالين، التقسيم أو الاحتلال الكامل، فإن عودة إسرائيل بوصفها “قوة احتلال” إلى قطاع غزة، هي مهمة صعبة تتطلب إبقاء أعداد كبيرة من القوات في غزة، خلال المستقبل المنظور على الأقل، بما يعنيه ذلك من إشكاليات لا تستطيع إسرائيل تحملها؛ خاصة أن مثل هذه الخطوة سوف تُطلق مقاومة مسلحة جديدة، فضلًا عن آثارها الخطيرة على مسألة “التوازن” الإقليمي في المنطقة.
ثانيًا: عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة؛ وهو الاحتمال الذي يبدو في أُفق مستقبل غزة بعد الحرب؛ رغم أنه احتمال ينتابه عديد من نقاط الضعف. وتبدو أهمها في ما أشار إليه وزير الخارجية الأمريكي، خلال جلسة الاستماع للجنة المُخصصات بمجلس الشيوخ، من ضرورة وجود “سلطة فلسطينية فعالة ومتجددة”، وهي إشارة إلى عدم تجدد قيادة السلطة الفلسطينية منذ سنوات طويلة، أي منذ آخر انتخابات أُجريت في عام 2005، هذا فضلا عن ضعف محمود عباس الواضح وعدم شعبيته، بل وسلطته المحدودة حتى في المناطق الخاضعة لحكم السلطة الفلسطينية، بسبب ضعف أداء الحكومة.
ثم إن من أهم نقاط الضعف في هذا الاحتمال أيضا، دخول السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، في حال انتصرت إسرائيل على حماس، وتمكنها من “تقليم أظافرها” إذ في هذه الحال، سوف يُنظر إلى السلطة على أنها منتفع من الحرب، واستولت على حكم غزة على حساب أرواح الضحايا والشهداء من الفلسطينيين سكان قطاع غزة.
ثالثًا: إدارة عربية مشتركة بدعم غربي لغزة؛ ويأتي هذا الاحتمال كأحد الاحتمالات المطروحة بشأن إدارة القطاع؛ وفي الوقت نفسه، يبدو أنه مدعوم من قوى غربية متعددة، خاصة في ظل إشارة بلينكن إلى أنه في حال عدم التمكن من توفير سلطة فلسطينية فعالة ومتجددة، فهناك “ترتيبات مؤقتة غير ذلك، قد تشمل عددًا من الدول في المنطقة”.
ويستند الدعم الذي يُلاقيه هذا الاحتمال، من القوى الغربية، من أنه يأتي في إطار أخذ الدول العربية زمام المبادرة في إدارة قطاع غزة، بالتعاون مع “السلطة الفلسطينية”؛ ففي ظل هذا الاحتمال، كما يرى الغرب، مصلحة لبعض الدول العربية، تلك التي لديها تحفظات قوية على حركة حماس، باعتبارها الفرع الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين. فمصر اتخذت إجراءات ضد الجماعة وفروعها، وقامت بتصنيفها “حركة إرهابية”؛ وكذلك فعلت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في اتخاذهما حملات ضدها.
احتمال واقعي
في هذا السياق، يُمكن القول بأنه رغم تعدد المشاهد المستقبلية، التي يبدو عليها مستقبل قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب الدائرة حاليًا، إلا أن الواضح هو “غموض مستقبل” القطاع، في ظل هذا التعدد، وفي ظل تقاطع الاستراتيجيات بخصوص كيفية إدارة القطاع بعد الحرب. رغم ذلك، فإنه من الواضح، أن توفير إدارة مدنية فلسطينية مشتركة ومختلطة؛ يبدو كأكثر الاحتمالات واقعية، رغم صعوبته الكبيرة، في كيفية إدارة قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب؛ حيث تتمثل هذه الإدارة المدنية الفلسطينية من ممثلين لسكان غزة، بما فيهم رؤساء البلديات، مع وجود علاقة وثيقة لهذه الإدارة المدنية مع السلطة الفلسطينية.
وكما يبدو، فإن الدول العربية الرئيسية يمكن أن تدعم مثل هذا الاحتمال، من حيث واقعيته، مثل مصر والإمارات والسعودية؛ هذا رغم أن استمراره لا يُمكن أن يطول إلا لفترة زمنية قصيرة. رغم ذلك، فإنه يُمثل الاحتمال الأفضل بكثير من أي احتمال آخر، على الأقل من منظور الفترة الزمنية التي يمكن فيها تجديد السلطة الفلسطينية، وتغيير قياداتها الحالية.