في حديثنا السابق، حول “المصطلح القرءاني.. ودلالاته المادية والمعنوية”، و صلنا إلى أن كلمات الله الكونية لها كيان مادي عضوي، يحمل معه وظيفتها، وأن ذلك “حقًا”، كما تؤكد الآية الكريمة “مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ”، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” [يونس: 5].
وكما هي كلمات الله الكونية؛ فإن كلمات الله الموحاة، المطلوب مننا تلاوتها وتدبرها ومحاولة التوصل إلى دلالاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا” [الكهف: 27].. هذه الكلمات الموحاة كلمات الله، تحمل أيضا في كينونتها مادتها العضوية ووظيفتها المنوطة بها.
اختلاف الدلالة
في هذا الإطار، وصلنا إلى استنتاج مفاده: إن الله عزَّ وجل قد خلق كل شيء في هذا الكون، ليؤدي وظيفة معينة، خُلِق من أجلها، ليؤديها ويقوم بإنجازها؛ وأن هذه الوظيفة تتناسب مع مادته العضوية التي خُلِق منها.
يقول سبحانه وتعالى: “قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ٭ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” [طه: 49-50]؛ ومن الواضح عبر الآية الكريمة، أن “أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ” تؤشر إلى، وتدل على، كيان الشيء المادي العضوي الذي يتلاءم مع الوظيفة التي خُلِق الشيء لأجل أن يؤديها؛ وأن “ثُمَّ هَدَى” تؤكد على أن المولى سبحانه وتعالى قد “أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ” وظيفته التي “هَدَى” الشيء إليها، تلك التي خُلِق من أجلها متلائمًا مع كيانه المادي العضوي.
وبالتالي.. نؤكد هنا على ما وصلنا إليه بخصوص بيان المصطلح القرءاني، و”المؤشر الدلالي” للمفهوم، الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني. ثم نُضيف مثالا مُهما، وهو مصطلح “يد”؛ فهو يحمل الجانب المادي العضوي كـ”ذراع”، وفي الوقت نفسه يحمل الجانب المعنوي الوظيفي، أي “المُنْتَج العملي” لليد.. وذلك، كما في قوله سبحانه: “أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا…” [الأعراف: 195].
إذ، عبر هذه الآية الكريمة يتبدى بوضوح أن “البطش” هو وظيفة اليد. ليس هذا فقط، ولكن توضح الآية أيضا أن كلاً من الأرجل والأعين والآذان، وإن كان لكلٍ منها جانبها المادي العضوي، إلا أن لها جوانبها الوظيفية المعنوية، تلك التي تتمثل في المشي والإبصار والسمع، على التوالي.
وكنا في حديثنا السابق، قد تناولنا اختلاف الرسم القرءاني في رسم مصطلح قرءاني واحد، ذلك الذي يأتي في آية بالرسم “قُرَّةِ” حيث التاء الرابطة لما قبلها من حروف، أي التاء التي يُطلق عليها “المربوطة”، وفي آية أخرى بالرسم “قُرَّتُ” حيث التاء المفتوحة.
ووصلنا هناك إلى أن “قُرَّتُ”، عبر رسمها بالتاء المفتوحة، قد أعطت مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي، الذي لم يتحقق بعد ويُصبح واقعًا عينيًا؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “وَقَالَتْ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” [القصص: 9]. حيث إن “التاء” المُضافة إلى الفعل “قرَّ”، قد رُسِمت مفتوحة؛ بما يعني أن قول “امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ” عن موسى عليه السلام “قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ”، هو رجاء مستقبلي منتظر لما بعد فترة زمنية “مفتوحة” ولذلك قالت: “عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا”، بما يؤشر إلى أنها كانت ترجو أن يكون موسى سببًا في “الاستقرار” المستقبلي.
أما في حالة ورود لفظ “قُرَّةِ”، عبر رسمها بالتاء المربوطة، فإنها تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب المادي العضوي، الذي تحقق وأصبح واقعًا عينيًا؛ وذلك كما في قوله تعالى: “فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [السجدة: 17]؛ بما يُؤكد أن “قُرَّةِ أَعْيُنٍ”، عبر رسمها بالتاء المربوطة، قد أعطت مؤشرًا دلاليًا على أن “مَا أُخْفِيَ لَهُمْ”، من نعيم الجنة، قد تآلفت عناصره التكوينية، وصار موجودًا وليس مجرد رجاء؛ بل هو شيء “مستقر”، رغم كونه مخفيًا عن الأنفس.
مادية “التاء”
ليس ورود الفعل “قرَّ” الذي يشير إلى -ويدل على- القرار والاستقرار؛ مضافًا إليه حرف التاء، هو المثال الوحيد في آيات التنزيل الحكيم، الذي تختلف دلالته تبعًا لاختلاف رسم حرف التاء الواردة معه.. ولكن، هناك أمثلة أخرى متعددة، من بينها لفظ “نعم” الذي يرد مُضافًا إليه حرف التاء المبسوطة أو المفتوحة “نِعْمَتَ”، أو مُضافًا إليه حرف التاء الرابطة أو المربوطة “نِعْمَةَ”.
وكما في الفعل “قرَّ”، الذي تختلف دلالته باختلاف التاء التي تأتي مُضافة إليه، فإن لفظ “نعم” تختلف دلالته أيضا باختلاف رسم حرف التاء التي ترد معه. ولنا أن نلاحظ، أن كلمة “نعم” تُشير إلى الرفاه وطيب العيش والصلاح؛ والنعمة: المنة، وكذا النعماء؛ والنَّعَامة: معروفة، لنَعْمةِ ريشها ونعومته؛ بما يعني أن “نعم” تتعلق بـ”الأرزاق” التي يَمِنُ بها الرزاق الكريم على عباده من الناس. وكما أن الأرزاق تشمل الجوانب المادية العضوية، فهي تتضمن كذلك، الجوانب المعنوية الوظيفية.
ففي قوله سبحانه وتعالى: “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ” [النحل: 18]؛ يأتي حرف التاء المربوطة “ة”، الذي يُضاف إلى “نعم”، للدلالة على الجانب المادي العضوي لهذه النعم الإلهية “نِعْمَةَ اللَّهِ”، التي لا تُعد ولا تُحصى. يؤكد هذا، السياق الذي ترد فيه هذه الآية الكريمة، مع ما سبقها من آيات كريمة [النحل: 3-17]، بدءًا من قوله سبحانه: “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ” [النحل: 3]؛ ووصولًا إلى قوله تعالى: “أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” [النحل: 17].
ففي هذا السياق، يُعدد المولى عزَّ وجل “بعض” النعم التي يَمِنُ بها على الإنسان، في هذا الكون الذي نعيش فيه؛ فمن “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ” [3]، إلى “خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ” [4].. ومن “وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ… وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ… وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا…” [5-8]؛ وصولًا إلى “وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ” [16].. هذا السياق، يشتمل على النعم الإلهية “نِعْمَةَ اللَّهِ” في جوانبها المادية العضوية، التي يُمكن معرفتها ماديًا، ملامسة أو إبصارًا. ومن ثم، يأتي ختامها بالآية الكريمة: “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ” [النحل: 18].
وبالتالي، فإن تعداد الأرزاق، من نِعَّم وأنعام وما سخره لنا سبحانه من شمس وقمر ونجوم، وبحر وفُلك وغيرها، لا نستطيع أن نقوم على تعداده؛ لذا، فإن قصّرْنا في إدراك تعداد هذه النعم الإلهية، فإن الله تعالى “غَفُورٌ رَحِيمٌ”.
وفي آيات التنزيل الحكيم، كثير من الآيات التي ورد فيها لفظ “نعم” مُضافًا إليه حرف التاء المربوطة “ة”، التي ترد معه، رسمًا قرءانيًا، للدلالة على الجانب المادي العضوي للنعم الإلهية، “نِعْمَةَ اللَّهِ” أو “نِعْمَةَ رَبِّكُمْ”؛ كما في قوله سبحانه: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا” [الأحزاب: 9] وأيضا كما في قوله تعالى: “وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ٭ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ” [الزخرف: 12-13].
هذا، عن الرسم القرءاني لحرف التاء، الذي يرد، رسمًا قرءانيًا، على شكل التاء المربوطة “ة” للدلالة على الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني “قُرَّةِ” أو “نِعْمَةَ”.
فماذا إذن عن الرسم القرءاني لحرف التاء، الذي يرد على شكل التاء المفتوحة “ت”؟.
للحديث بقية.