بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عروبة 22
من أبكر الأفكار وأكثرها مكرًا التي لاكتها الولايات المتحدة وإسرائيل ونخبة عربية خاضعة لهما جملة تقول: إنّ “حماس” هذه المنظمة الصغيرة غير المسؤولة قامت في ٧ أكتوبر/تشرين الأول ومن طرف واحد بقلب معادلات المنطقة وغيّرت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط.
وأتبع هذا الفريق الجملة/الفكرة بنتيجتين؛ الأولى، أنه عملٌ أكبر منها ولا يحق لها – وهي ليست دولة – أن تندب نفسها لإجراء خطير مثل هذا. والثانية، أنه من حق إسرائيل والولايات المتحدة أن يقوما بمنع أن يحدث ذلك، وإلا انتشرت الفوضى وضاعت هيبة الدول أمام المنظمات غير الحكومية. وكانت النتيجة لهذه النظرة ما نراه من هذا التواطؤ العربي غير المعلن على تأديب المقاومة وتصفيتها ونزع سلاحها للأبد، عقابًا لها على تجرؤها على أسياد اللعبة والقواعد التي وضعوها في واشنطن وتل أبيب.
المشكلة الكبرى أنّ كل هذه الفكرة برمتها مبنية على كذبة ومغالطة تاريخية كبرى؛ فالحقيقة تقول إنّ تغيير قواعد اللعبة بدأ قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بزمن طويل، وأنّ من قام بتغيير هذه القواعد هم الأمريكيون والإسرائيليون أنفسهم، وأنّ “طوفان الأقصى” في أحسن الأحوال ليس إلا رد الفعل المضاد الأنجح ضمن ردود أفعال سابقة لمواجهة التغيير الذي قادته واشنطن منذ عهد ترامب والذي سعى بايدن بعده إلى تعميق وتوسيع نطاقه.
أمريكا ترامب.. من إدارة القضية إلى حسمها لصالح اسرائيل
في سبعينات القرن الماضي، خرجت مصر الدولة الأكبر من الصراع العربي-الإسرائيلي، ولكنها عند خروجها لم تغلق الباب قبل أن تدخل أمريكا محتكرًا وحيدًا لتسوية هذا الصراع تحت جناح مقولة السادات بأنّ ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يدها. منذ ذلك الوقت انتهجت الإدارات المتعاقبة الخارجة من قلب مؤسسة الأمن القومي الأمريكية نهجًا ماكرًا يدّعي أنه يسعى لتسوية عادلة، ويبقي في هذه المناورة على عدم اعترافه القانوني بالاستيطان الإسرائيلي ولا بحدود إسرائيل بعد حرب ٦٧. ولكن في الوقت نفسه يقوم بدعم عملية قضم متدرّج وخلق حقائق على الأرض تكون نتيجتها هي تمكين إسرائيل من اقتطاع ما تريد من الأراضي بالقدر الذي يحقق لها ما تسميه خطة “إيجال آلون” الشهيرة بالحدود الآمنة لإسرائيل.
في هذا السياق، ومنذ بداية حكم ريجان وحتى نهاية عهد أوباما اكتفت واشنطن بوضع قواعد لعبة تقوم على منهج إدارة الصراع وليس حله عبر استهلاك الوقت وإدخال العرب خاصة بعد “أوسلو” في متاهات المبادرات الغامضة والمفاوضات الماراثونية بما في ذلك تجنّب رؤساء أمريكيين بين ١٩٨١ – ٢٠١٧ أن يتقدّموا نحو حل حاسم للنزاع، وقد أفهمتهم المؤسسة أنّ حلاً فجائيًا باترًا من هذا النوع سيغضب الشارع العربي ويضع حلفاءها في وضع قلق قد يهز عروشهم الملكية أو الرئاسية وبالتالي يضعف سيطرة سيد البيت الأبيض المطلقة على شؤون المنطقة.
تغيّر كل هذا عندما وصل لسدة الرئاسة ٢٠١٧ دونالد ترامب الشعبوي القادم من خارج المؤسسة، بل والمتمرّد على ما يسميه نخبة الحكم في واشنطن، متسلحًا بسذاجة رجل أعمال يدخل دون معرفة إلى تعقيدات السياسة، مغمورًا عقائديًا بانتماء شخصي وعائلي للمسيحية الصهيونية.
شمّر ترامب قليل الخبرة عن ذراعيه لما اعتبر أنه سيعيد توجيه حركة التاريخ في أرض الأنبياء نحو تحقيق النبوءة الإنجيليّة “دعم إسرائيل هو الطريق الوحيد لعودة المسيح”.
زلزل ترامب القواعد الأمريكية العلنية الظاهرة في الصراع، ولم يكتفِ فقط بمجرد تغييرها متقدمًا بخطته التي عُرفت بصفقة القرن، والتي تضمّنت الاعتراف بالقدس عاصمة موحّدة لإسرائيل، وأنهى ما يُشبه العرف المستقر لمن سبقوه في الامتناع عن تنفيذ قرار للكونجرس بنقل السفارة إلى القدس.
اعترف ترامب بالاستيطان غير المشروع، واعتبر نفسه غير ملزم بـ”حل الدولتين”، وقام بضم ٤ دول عربية للتطبيع مع إسرائيل في الاتفاقيات الإبراهيمية، وتهيّأ لشطب القضية الفلسطينية من التاريخ، أو هكذا توهّم. منح ذلك الكشف المبين لـ”خيانة” الوسيط الأمريكي “النزيه” تطوّرين معاكسين، الأول؛ هو توفير دعم مطلق لليمين الإسرائيلي المتطرّف ونتنياهو الذي وصل به الجنون يومًا حد إعلان تاريخ محدّد لضم الضفة الغربية المحتلة رسميًا.
أما التطور الثاني؛ فهو نشوء سياق عربي وإقليمي شعبي وغير حكومي ذي طابع ثوري معادي لهذا التجبّر الأمريكي وما صاحبه من هزال ردود الفعل العربي الرسمي. هذا السياق خلق بيئة مؤاتية لتطوير تحالف إقليمي معادي للاحتلال ولصفقة القرن. في هذا التحالف حسمت إيران تمامًا خيارًا مفاده أنّ مصلحتها الذاتية في حماية نفسها من عدوان إسرائيلي إنما يتم بتوفير الأسلحة وخبرات تصنيعها لقوى المقاومة المحيطة بإسرائيل وتحويل هذه القوى لـ”حلقة النار المحيطة بإسرائيل”، لا يمكن النظر إلى معركة “سيف القدس” ٢٠٢١ ولا لصعود هجمات “الجهاد الإسلامي” وشعبيته داخل الضفة خارج هذا السياق المقاوم لتغيير ترامب الفج لقواعد اللعبة القديمة.
أمريكا بايدن.. من حسم القضية إلى تصفيتها
عندما جاء بايدن، ابن المؤسسة البار وأحد أبرز وجوه نخبة واشنطن منذ ٧٣، سناتورًا ثم رئيسًا، توقع بعض العرب أن يعود لقواعد اللعبة القديمة. لكن بايدن وإن كان قد عاد ظاهريًا للحديث المخادع عن “حل الدولتين”، إلا أنه أبقى على السفارة الأمريكية في القدس وسمح بتوحّش النشاط الاستيطاني.