في مسعى جديد لتحريك الجمود الحاصل على الساحة السياسية الليبية، وفي وقت تتعرض فيه البعثة الأممية للدعم في ليبيا إلى انتقادات حادة، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، عن تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، نائبة لرئيس البعثة في ليبيا، عبد الله باتيلي، للشئون السياسية.
ويأتي تعيين خوري خلفا للزيمبابوي لريزيدون زينينغا، الذي كان قد شغل منصب أمين عام مساعد ومنسق لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وهو المنصب الذي استحدث بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2542 لسنة 2020؛ بما يؤكد على عدد من العوامل الدافعة في العودة الأمريكية النشطة، إلى الساحة الليبية.
ضمن أهم هذه العوامل مواجهة تصاعد النفوذ الروسي في الشرق الليبي؛ إذ يأتي تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، مؤشرا مُهما على العودة الأمريكية إلى الاهتمام بالملف الليبي؛ كما يمكن اعتباره، بمثابة “إعادة تموضع” ورغبة في تسوية المشهد أمريكيًا، خاصة في ظل التمدد الروسي جهة الشرق الليبي، والغرب أيضا.
ومن الواضح، أن التحرك الأمريكي يتواكب مع محاولات روسيا في تعزيز حضورها على الساحة الليبية، كنوع من أوراق الضغط على الدول الغربية، وتحديدًا الدول الأوروبية؛ إضافة إلى اتخاذ التواجد في ليبيا نقطة ارتكاز، في اتجاه تأكيد النفوذ الروسي في منطقة الساحل الأفريقي. إذ تُدرك واشنطن مخاطر المحاولات الروسية في الانخراط بشكل أكبر، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على مصالحها.
ولعل هذا نفسه ما دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تقديم استراتيجية إدارته حيال ليبيا، إلى الكونغرس في نهاية مارس الماضي عام 2023، وذلك ضمن ما أُطلق عليها “الخطة العشرية لتعزيز الاستقرار في مناطق الصراعات”.
ويأتي الاهتمام الأمريكي بالعوائد الاقتصادية وثروة ليبيا من الطاقة ضمن هذه العوامل؛ فمن شأن الاستقرار في ليبيا، أن يُحقق عددًا من المصالح الأمريكية، خاصة في ما يتعلق بإمكانية إحداث زيادة كبيرة في صادرات النفط والغاز الليبيين؛ وهو ما يتأكد عبر الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي، الصادرة في عام 2010، التي تتضمن العمل على تحقيق المصالح الأمريكية من خلال الوسائل الدبلوماسية، وهو مؤشر -وفقًا للمنظور الواقعي- يأتي أكثر ارتباطا بالثروة الليبية من مصادر الطاقة (النفط والغاز).
إذ بحسب تقديرات “أوبك” نهاية عام 2021، فإن احتياطيات النفط الليبي تصل إلى حوالي 48 مليار برميل، بما يجعلها الاحتياطيات الأكبر في أفريقيا؛ هذا فضلا عن المركز الخامس الذي تحتله ليبيا، على المستوى العالمي، في احتياطيات النفط الصخري، إضافة إلى ارتفاع احتياطيات الغاز لديها. وبالتالي تُدرك واشنطن أهمية مصالحها هناك، خاصة في ظل الرغبة المتنامية من عددٍ من الأطراف الدولية، سواء الأوروبية المتمثلة في إيطاليا وفرنسا، أو روسيا، في الاستفادة من الثروة الليبية الهائلة، في مجال الطاقة.
من جهة أخيرة، الدفع في اتجاه تحريك الجمود ومعالجة الانسداد السياسي؛ إذ يأتي تعيين ستيفاني خوري، صاحبة التجربة التي تتجاوز 15 عامًا من الخبرة، عبر العمل في دول عربية متعددة، مثل العراق ولبنان واليمن والسودان؛ ليؤكد على الدخول الأمريكي على خط الأزمة الليبية، والدفع في اتجاه “تغيير الوجوه” للسيطرة على ماجريات التفاعلات التي تمر بها الأزمة؛ فضلا عن استباق الاحتمال المتوقع بـ”استقالة” عبد الله باتيلي.
واللافت، أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات التي تتهم البعثة الأممية، بالمساهمة في حالة الجمود و”الانسداد السياسي” على الساحة الليبية؛ صدر قرار الأمين العام للأمم المتحدة بتعيين الأمريكية خوري. وكما يبدو، يأتي هذا التعيين محاولةً لمعالجة وضعية الانسداد والجمود التي تتسم بهما الساحة السياسية الليبية، وتوجه تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية، نحو إيجاد أرضية صلبة للذهاب إلى الانتخابات.
والمُلاحظ، أن تعيين خوري قد جاء بعد قرار مجلس الأمن الأخير، بفرض عقوبات على كل من يُعرقل العملية السياسية، وإجراء الانتخابات في ليبيا؛ بما يؤشر إلى أن الأمور تتجه نحو إحلال خوري بديلًا عن باتيلي، في قادم الأشهر، وتحريك الوضع السياسي في ليبيا؛ وتحديدًا بعد أن أصبح من الصعوبة بمكان أن يجد باتيلي حلا لهذه الأزمة.
اهتمام أمريكي
لعل هذه الجهات الثلاث، تلتقي عند نقطة مفادها عودة الاهتمام الأمريكي بالساحة الليبية؛ حيث تبدو ملامح هذه العودة الأمريكية، في الاهتمام بالملف الليبي، من خلال اختلاف نهج إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن سابقيه، خاصة باراك أوباما ودونالد ترامب؛ من منظور أن الأول قرر الانكفاء عن ليبيا، في حين اهتم الآخر بسحب بلاده بعيدا عن “حروب الآخرين”، وفق تعبيره الشهير.
لكن مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، والمُطالبة الأمريكية من “تركيا وروسيا الشروع بسحب قواتهما من ليبيا”، بدا أن بايدن اتجه نحو رسم استراتيجية أمريكية جديدة، في التعامل مع تفاعلات الساحة الليبية؛ وهو ما يتضح عبر تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، الذي يأتي بعد أن تعالت الأصوات التي انتقدت، ولا تزال، البعثة الأممية للدعم في ليبيا، ورئيسها عبد الله باتيلي، بأنها سبب رئيس في حالة “التجمد السياسي”، التي تمر بها ليبيا.
ومن ثم، يبدو أن الولايات المتحدة تستشعر ضرورة إيجاد تسوية سياسية، بين الأطراف الليبية، من خلال محاولة تحريك حالة الجمود، السياسي؛ وبالتالي، جاء اختيار ستيفاني خوري، ذات الأصول اللبنانية، والخبرة الطويلة في المنطقة العربية، التي ربما تساعدها على النجاح في جمع الأطراف الليبية، على طاولة “مباحثات الانتخابات”، لاسيما وأن باتيلي كان مترددًا في عددٍ من القرارات في الفترة الأخيرة.
وهكذا.. يُمكن القول بأن تعيين ستيفاني خوري، هو محاولة أمريكية للتحكم والسيطرة على الوضع السياسي على الساحة الليبية؛ خاصة بعد الانتقادات المتعددة التي طالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ورئيسها عبد الله باتيلي. ومن الواضح، أن هذه المحاولة تأتي بعد النجاح “النسبي” الذي حققته من قبل، الأمريكية ستيفاني ويليامز، التي كانت نائبة للمبعوث الأممي في ليبيا، ثم مبعوثة أممية حتى استقالتها في يوليو 2022.