مختارات

مسلسل “الحشَّاشين”.. بين استلهام التاريخ والسقوط الدرامي!

نقلا عن صفحة Hosam ElDin  على موقع facebook

تمتلك كل شخصية أو بطل فني هاجس ودافع مُحرك هو مُفتاحه، أو ببساطة صورة العالم في قلبه التي يود أن يستدعيها للحضور، مٌقارنة بصورة العالم الواقعي، تُحدد تلك الصورة ومحاولات استدعائها اختياراته وقراراته وصولا لمصيره المحتوم.

ما دوافع حسن الصباح؟

يُعد حسن الصباح والحشاشين أشهر تجليات الفرق الباطنية، وهي مذاهب مُتعددة تدّعي أن للقرآن والسُنة ولكل ظاهر باطن مخبوء، يمتلك زمام كشفه أئمة حاضرين وفي حالة غيابهم، مُتلقين عنهم.

خارج كل التعقيدات الفقهية، تُمثل مفردات مثل الباطن والسر والإمام المُنتظر “المؤسطر” بالكامل في هالة إنقاذية، عوارض لواقع سياسي مأزوم ظهر بعد استشهاد الحُسين وظهور ملكيات إسلامية قوية، ليتحوّل القلق السياسي وتوق الكثيرين لماضٍ قديم أكثر عدلا إلى حراك بعالم سُفلي بدلا من المجال السياسي العام المؤمم من الخلافات القوية، وتتحول تنظيمات سياسية سرية إلى حركات باطنية مؤيدة بنبوءة دينية ساحرة جذبت ساخطين من كل طيف، فقهاء ومُقاتلين، فقراء وأفاقين، ثوار وغاضبين

يُصبح سؤال الدراما لخلفية تاريخية كتلك، من حسن الصباح في كل هؤلاء؟ فقيه، أم أفاق أم ثائر أم مُقاتل؟

يؤكد صُناع العمل أن المُسلسل يستلهم التاريخ ولا يوثقه، لذلك يستحضر النقد التالي كل شواهده من عالم الدراما ذاتها، لا من المقارنات التاريخية.

في البداية يظهر حسن طفلا موهوبا يمتلك فراسة مُذهلة لم يؤسس لها دراميًا، فراسة لا تُحلل ظاهر الأشياء كموهبة شيرلوك هولمز، مثل أن تجد غبار أبيض على ثوب أحدهم فتستنتج أنه خباز، الفراسة التي أظهرها الصبي هي علم بغيب مخبوء، يُعززه رغبة أمه في تلقينه أسرار الحروف والأرقام ومناجاة القمر في الليالي المُظلمة، وهي تجليات لعلوم مُشوشة بين السحر والباطنية والكابالا اليهودية.

يؤكد عبد الرحيم كمال هذا التأسيس السحري لمواهب الطفل وعلاقته بعوالم الخوارق عندما يسقط في بئر، ويحتاج للخروج منه لعقد صفقة فاوستية رديئة مع كيانات خوارقية تأخذ عليه عهد باختيار الظُلمة بدلا من النور.

يؤسس عبد الرحيم كمال لحسن الفتى في صورة مُختلفة، كثائر سياسي نبيل يتوق لتغيير العالم مع أصحابه الذين يتعاهدون على مُساندة بعضهم، مهما اختلفت مذاهبهم والقارب الذي سيصلون عبره لصورة العالم المُتمناة في قلوبهم، يمتلك الطوسي الطموح السياسي، يمتلك عمر الخيام الطموح الشعري والجمالي، لكن لا يُبدي حسن الصباح أي ملكة ولا يظهر أثر لعهد الظلمة القديم الذي أخذه في طفولته.

لا يؤسس السرد الدرامي في تلك اللحظة لانجذابه للمذهب الباطني وأئمته الغائبين، كمُعادل سياسي لمعنى العدل المفقود والغائب في عالمه. (لا يُقدم العمل حتى الحلقة الخامسة تعريفا مُتماسكا وسلسا للباطنية، التي يظهر أصحابها كأشباح مُتشحين بالسواد يفرون من عيون البصاصين والجند)

يمتلك المؤلف عبد الرحيم كمال توقا مُكررا لاستعادة شخصيات سحرية تهبط على السرد الدرامي بقدرات خوارقية ولُغة صوفية مُركبة بمجازات ساحرة تحتمل الحكمة وتحتمل الدجل، كتالوج فني قادر على خلق مسيح مُنقذ أو مسيخ مُهلك، خرج منه “ونُّوس” الشيطان المغوي و”عرفات” الولي المُنقذ في جزيرة غمام.

يكمن تشويش حسن الصباح أنه شخصية أكثر تعقيدًا من شيطان مُتخفٍ في عالم البشر أو ولي مؤيد من عوالم الغيب، لذلك تتشظى الشخصية بوضع قدم هنا وقدم هُناك. لنرى سير مشوش تظهر تناقضاته بوصول حسن لطور الرجولة.

يُبايع حسن في طور الرجولة الداعية الباطني “ابن عطاش” بعيون دامعة وإيمان صادق لا يتردد على نُصرة الإمام ودعوته، في السر والعلن، ولكنه في لحظة بعينها يوعز لتابعه أن يقتل مؤذن أصفهان الذي رفض دعوة الباطنية، لا نُدرك هنا هل يؤسس للبطل الدرامي كمُتطرف دوجمائي عنيف أو كسياسي براجماتي يُحاول خلق مكانته في عالم الدعوة الجديد الذي انتمي له؟

ينجح حسن في كشف مستور رؤيا لم يحضرها ويُظهر كرامات تسمح له بدخول قصر المُستنصر، بينما في لحظة أخرى يدعي كرامة كاذبة تُنقذه وركاب سفينته من الغرق بينما نرى كتاب حركة الرياح حاضرًا، لا ندرك هنا هل يؤسس للبطل الدرامي، كولي حقيقي يمتلك وصاله مع الغيب أم مسيخ دجال يُظهر للعين علومه في صورة سحر يستميل به القلوب؟

يبلغ تشظي الشخصية الدرامية ذروته عندما يُحاول صانع العمل حل مأزقه الذي خلقه بمفاتيح ومُقدمات درامية متعددة ومُتناقضة برؤيا سحرية توحد السرد المُتشظي، يتوجه فيها حسن الصباح بالزي الأسود الذي يُمثل (الدجال، الأفاق، البراجماتي) لقتل حسن الصباح بالزي الأبيض الذي يُمثل (المؤمن، الثائر، الحالم) ليُخبره أن إيمانه بالعدل أوصله لهنا، ولكن إيمانه بنفسه سيُكمل الحكاية.

منذ تلك اللحظة يتحول حسن الصباح من شخصية مُشتتة بين كل مُمكناتها الدرامية المبتورة خطوطها إلى شخصية شريرة بشكل أجوف، تتنكر لمذهبها وتُعذب أصحابها وتُمارس التقية السياسية وتستميل العامة وتستعدي العلماء. في تقمص كامل للسردية السياسية عن تيار الإخوان الحداثي.

يسهل استنباط كل اسقاطات الحكاية الدرامية على الواقع الحالي، يُبالغ السرد في تأطير المُقاربة بينما يُهمل في شرح الحالة التاريخية المُعقدة لعصره، يتوه المُتلقي العادي في قلب صراع تاريخي لم يُشرح بشكل جيد حتى مع استعانة صناعه براوٍ في بداية كل حلقة يُخبرنا برتابة رديئة بنوايا البطل ومسار رحلته.

تبدو شخصية حسن الصباح الدرامية وفية لكل شيء إلا لنفسها ومُمكناتها، شخصية مشدودة لتوازنات تُثقلها وتحولها في النهاية لمزيج من كل شيء ولا شيء.

شخصية درامية وفية لكاتب درامي يمتلك نقاط ضعف قاتلة، في خلق كل شخوصه بهالة مُستدعاة من عالم صوفي تهويمي، وإثقالها بلغة صوفية تستر عوار الحبكة بحكمة وسحر لفظي مُفترض.

شخصية درامية وفية لحقبة سياسية تستدعيها في قالب بعينه لتأكيد فكرتها عن الإسلام السياسي وهي فكرة أكثر تعقيدًا وتغيرًا في كل عصر من تحويلها إلى لعنة كاريكاتورية بمواصفات ثابتة في حالة عود أبدي من عصر لآخر.

شخصية درامية وفية لمُخرج يُجيد استخدام التقنية و”الدرونز”، لكن خياله مشدود بالكامل لنحت مُتكرر من الثيمات الغربية، لذلك يُثقل “الحشاشين” نفسه بكروما خضراء ساحرة وتأثر واضح في التتر والمشاهد بعالم «لعبة العروش»، لخلق إيهام ساحر تُحطمه اللغة الركيكة.

رغم كونه حالة خيالية لا تخضع لشروط التاريخ واللغة، إلا أن “لعبة العروش” يختار أن يتبنى اللكنة البريطانية القديمة لأنها ببساطة تُساعد على إيهام المتلقي الغربي أنه يحيا قصة من عصور مُوغلة في القدم.

لا يتعلق التمسك بالفصحى في الأعمال التاريخية بدواعي الدقة التاريخية من عدمها إنما بقُدرتها الذكية على تعزيز الإيهام وهو الصفقة الأهم بين المُتلقي وصانع العمل، من مُخاطرة استخدام العامية، ورغم المخاطرة لا تظهر عامية ذكية مُشبعة بتراكيب فلكلورية تُناسب حالة العمل إنما عامية شديدة الجدة و”الطزاجة” حد الابتذال

يتواطأ تحالف عناصر من كاتب مؤرق بثيمة مُستعادة تنجح في خلق أوليائها وشياطينها لكنها تعجز أمام شخصية تحمل التناقضين معًا، شخصية درامية تحتاج لتأسيس أكثر ذكاءً من إلقاء كل أحجار النرد على رهان واحد، ومُخرج يمتلك كل الإمكانيات الكاملة إلا شرط الأصالة والرؤية المُستقلة وحقبة تاريخية تستدعي التاريخ لتأييد روايتها عن الواقع على خلق حسن الصباح لا يوجد في كتب التاريخ أو في شروط الدراما، شخصية لا توجد إلا في عقول صانعيها وتعجز عن الخروج بشروط الكتابة الدرامية الذكية للشاشة.

تخضع الخلافة الإسلامية من اللحظة الأولى التي ظهرت فيها على مسرح التاريخ إلى قوانين علم الاجتماع التي تسري على كل الحضارات، كونها حدث في حالة اشتباك مُستمر بين مكوناته الدينية والتاريخية والسياسية.

بينما يحاول الاستشراق دومًا التعامل مع الحضارة الإسلامية كشذوذ سحري ظهر على مسرح العالم بلا مُقدمات، يصعب وضعه على قدم المساواة مع الحضارات الأخرى

لذلك يُثقل هذا الشذوذ ويُفسر بهالة سحرية وشيطانية وشهوانية. نجد تكثيفها في التناول التاريخي لظاهرة الحشاشين من فرقة سياسية ودينية أفرزها واقع تاريخي وسياسي بعينه لحالة سحرية من الشر والعنف والشهوة. تُشبه تأويل المُستشرقين للنينجا والساموراي في القرون الوسطى بالشرق الأقصى.

يُقدم “الحشاشين” شخصية وعالم أكثر استشراقية من كتابات المُستشرقين أنفسهم، شخصية مُثقلة بكل الإيماءات المُمكنة لذلك تومئ في كل الاتجاهات وتعكس كل شيء إلا جوهرها، شخصية تخدم عيوب كاتبها، وانبهارات مُخرجها ومُتطلبات زمنها السياسي ولا تخدم نفسها، لذلك يتهاوى في الحلقات الأولى بناؤها الدرامي والزمن الذهبي لاستكشاف دوافعها ومُفتاحها الذي سيؤسس لكل ما يليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock