في الأول من شهر مايو من كل عام يحتفل العمال حول العالم بيومهم المشهود الذي يوافق ذكرى إضراب العمال في مدينة شيكاغو الأمريكية عام ١٨٨٦ والذي قٌوبل بقمع شديد من قِبَل قوات الأمن والسلطات في المدينة أسفر عن مقتل عشرات المدنيين المؤيدين للإضراب واعتقال وإعدام عدد من القيادات العمالية.
أول مدينة عمالية
ولكن وإن كانت ذكرى عيد العمال مرتبطة بإضراب وقع في الولايات المتحدة٫ فإن أول إضراب عمالي عرفه التاريخ البشري وقع في مصر وتحديداً في “دير المدينة” وهي ايضا أول مدينة عمالية عرفها التاريخ.
فعلى عكس الصورة التي يسعى البعض لتكريسها٫ لم يكن العامل المصري القديم أبدا عبداً يٌساق الى العمل وهو مٌكره بل كان مدركاً تماماً لحقوقه وواجباته على حد سواء.
ففي مدينة دير المدينة التي بُنيت في عهد الأسرة الثامنة عشرة على مقربة من مدينة الأقصر او طيبة كما كانت تٌعرف آنذاك عاصمة الامبراطورية المصرية وتحديداً في عهد الملك رمسيس الثالث وفي الشهر السادس من السنة التاسعة والعشرين من حكمه وقع إضراب من قبل العمال والحرفيين العاملين في المقابر في المدينة وذلك بسبب تأخر المسؤولين في دفع رواتب هؤلاء العمال الذين كانوا يتقاضونها بشكل شهري في شكل حبوب.
إعتصام سلمي
ومع تأخر الأجور شهراً تلو الآخر قرر العمال الامتناع عن العمل وألقوا بأدواتهم كدلالة رمزية على ذلك ثم توجه هؤلاء العمال في مظاهرة حاشدة إلى المعبد الجنائزي المخصص للملك رمسيس الثالث و بعدها نظموا ما يمكن تسميته في عصرنا باعتصام سلمي مع استمرار امتناعهم عن العمل بالقرب من معبد تحتمس الثالث.
ارتبك المسؤولون المحليون خاصة مع رفض العمال مناشداتهم للعودة إلى العمل ومحاولاتهم مساومتهم على حقوقهم٫ فما كان من المسؤولين إلا ان لجأوا الى خيار القمع ممثلاً في قائد قوات الأمن في المدينة وكان يدعى منتومس وكلفوه بإنهاء هذا الإضراب.
لكن المسؤولين فوجئوا بالرجل الذي راهنوا عليه لإنهاء الاضراب ينحاز الى العمال ” ففي اليوم الثالث عشر حدث أمر عجيب وهو أن رئيس الشرطة منتومس طلب من العمال المتظاهرين التجمع من أجل قيادتهم للاعتصام في معبد سيتي الأول بالقرنة “.
وبطبيعة الأمر زاد هذا الانحياز من حيرة وارتباك المسؤولين وفي النهاية لم يجدوا أمامهم سبيلاً لحل هذه الأزمة – كما تشير المؤرخة وعالمة المصريات آنا رويز في كتابها “روح مصر القديمة” – سوى أن يمنحوا العمال نصف مستحقاتهم في صورة ذرة وحصة من الحبوب مع وعد بتسوية أحوالهم “فوراً”.
إلا أن الأمر لم ينته عند هذا الحد كما تؤكد رويز حيث قام العمال بعدة مسيرات احتجاج أخرى قبل تسوية المظالم التي وقعت عليهم ولم تنته الأزمة الا بفتح صوامع القصر الملكي وحصول العمال على حقوقهم وأجورهم كاملة غير منقوصة.
نضالٌ جماعي .. وتمسُّكٌ بالمطالب
إن إضراب أسلافنا العمال الذي شكل سابقة في التاريخ البشري ومصدر إلهام مستمر للحركة العمالية حتى يومنا هذا يستحق التوقف والتأمل.
فهو اولاً ينفي عن المصري تلك التهمة الظالمة التي طالما وجهها اليه الغزاة ومن والاهم من المصريين على حد سواء وهو انه سلبي وأنه يتقبل الظلم والقهر والجور وهو راض٫ فعلى عكس هذه الصورة٫ رسم إضراب دير المدينة صورة لعامل يأبى آن يٌسلب حقه وقوته وقوت عياله ويجأر بالدعوة إلى العصيان في مواجهة الظلم.
كما ان من المدهش حقاً هو إدراك المصريين البسطاء – حتى في ذلك الزمن البعيد – لضرورة استخدام الوسائل السلمية للتعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق المهدرة إذ لم يلجأ العمال إلى العنف مطلقاً حتى حين تم تهديدهم به ولعل اصرارهم على النهج السلمي٫ الذي يصوره البعض الآن للاسف باعتباره نوعاً من الضعف٫ هو ما جذب إليهم قائد قوات الأمن الذي انحاز إليهم مخالفا بذلك ما صدر إليه من تعليمات.
كما أن العمال ظلوا ثابتين على مواقفهم ومطالبهم كالقابضين على الجمر رافضين المساومات وأنصاف الحلول ومتمسكين بالنضال الجماعي الذي لا مكان فيه للبطولة الفردية او الانانيه.
أن إضراب العمال وعصيانهم المدني في مصر القديمة أيام رمسيس الثالث، هو الأول من نوعه في التاريخ المدون لكنه لم يكن الأخير في تاريخ عمال مصر الذين طالما سطروا ملاحم مدهشة في مواجهة الظلم لا سيما في العصر الحديث عبر مشاركة طوائفهم المختلفة في ثورة عام ١٨٠٥ أو الثورة العُرابية وثورة ١٩١٩ والانتفاضات الشعبية المختلفة في سبعينيات القرن العشرين أو في انتفاضة الخامس والعشرين من يناير عام ٢٠١١.
المصادر:
آنا رويز- “روح مصر القديمة”- ترجمة إكرام يوسف- مكتبة الأسرة- ٢٠٠٦