نجم من نجوم الاهتداء، وقدوة ومثل لكل مسلم لا يخشى في الله لومة لائم، علت همته وسمت نفسه؛ حتى كان أول من جهر بالقرآن في مكة؛ غير هيّاب بطش قريش، ولا تجبرها.. من السابقين الأولين الذي قام الإسلام على أكتافهم بينما كان السادة والكبراء حربا على دين الله ورسوله؛ لكن عبد الله ومن هم على شاكلته من أغمار الناس كانوا لدين محمد العون والمدد والحصن الحصين؛ فما سبقهم أحد ولا حاز فضلهم مسلم؛ فكأنهم أساطير ما شهدت لهم الدنيا من نظراء.
بمثل ابن مسعود.. دانت العرب وخضعت الأمم واستسلمت الممالك التي ظلت دهورا في منعة وقوة، بهؤلاء -وجلهم من رقيقي الحال وأصحاب الأثمال- ارتفع مجد الإسلام وبلغ ما بلغ الليل والنهار.. وهو من قال عنه حذيفة بن اليمان: “كان أقرب الناس هديا ودلا وسمتا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود، حتى يتوارى منا في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد هو من أقربهم إلى الله زلفى”.
منذ اليوم الأول الذي رآه فيه الرسول في بطحاء مكة؛ حتى عرف معدنه وخبر أمانته، كان عبد الله مازال فتى يرعى الغنم لعقبة بن أبي معيط، والرسول وأبو بكرسائران فيلقيانه، فيسألانه: هل معك من لبن، فيرد عبد الله: نعم ولكني مؤتمن، فيقول له الرسول:”ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل” فيأتيه فيمسح على ضرعها ويدعو فيمتلئ الضرع فيحلب فيشربون جميعا، ثم يقول للضرع اقلص فيقلص، فيعجب الفتى ويطلب أن يعلمه الرسول من هذا الكلام؛ فيمسح الرسول على رأسه ويقول له:” إنك غلام مُعَلِّم” يقول عبد الله: فلقد أخذت منه سبعين سورة، ما نازعني فيها بشر، وقد شهد أبو مسعود الأنصاري وآخرون أن الرسول مات وما ترك من بعده بأحد أعلم بكتاب الله من ابن مسعود.
وكان هو – رضي الله عنه – يقول: “والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى إليه الإبل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم”. وما أنكر عليه أحد من أصحاب محمد ما قال.
أسلم ابن مسعود وكان سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرهم، حتى أن النبي لم يكن قد دخل بعد دار الأرقم؛ كما أن الرسول اتخذه خادما، فكان يدخل عليه ويلبسه نعليه، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، فكان أحرص الناس على الاقتداء به في كل حركة وسكنة، كما كان أعلم الناس بالحلال والحرام وأول من جهر بالقرآن في مكة، ومنذ ذلك اليوم أخذ ابو جهل ينزل به صنوف العذاب إذ كان عبد الله رجلا بلا عشيرة تمنعه حليفا لبني زهرة، لكن الله منعه حتى أمكنه من رقبة أبي جهل يوم بدر، فاجتثها وأتى بها الرسول فلما رآها قال: “هذا فرعون هذه الأمة”.
وبالرغم من الضعف الجسماني الواضح على عبد الله إلا أن قوة روحية هائلة كانت تدفعه لخوض غمارالمعارك، ومكابدة الأهوال.. فكان من أصحاب الهجرتين، وممن شهدوا المشاهد كلها مع الرسول، وقال عنه ابن عباس: ما بقي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يوم أحد إلا أربعة: أحدهم ابن مسعود، وكان بعض الصحابة يظنون أن ابن مسعود وأمه من آل بيت النبي لكثرة دخولهما عليه وطول مكثهما عنده.
لقد كانت مكانة ابن مسعود عند الرسول مكانة لا تعدلها مكانة، فهو الذي يحب أن يسمع منه القرآن وهو الذي قال عنه: “رضيت لأمتي ما رضي ابن أم عبد” وفي هذا تشريف وتعظيم دونهما أي فضل كما قال عنه: “لَوْ كُنْتُ مُسْتَخْلِفًا أَحَدًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لاسْتَخْلَفْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ” وإذ يضحك بعض الصحابة من دقة ساقيه، يرد عليهم الرسول بأنهما يوم القيامة أثقل في الميزان من جبل أحد، كما أوصاهم: “…وتمسكوا بعهد ابن أم عبد”.
وقد شهد له جماعة من الناس كانوا عنده جلوسا فقالوا: “ما رأينا رجلا أحسن خلقا، ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا، من ابن مسعود، فقال لهم الإمام على: “أنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم.قال: “اللهم اشهد أني أقول مثل ما قالوا وأفضل”.
وكان عمر يعرف له قدره ويجله أشد الإجلال، فقد قال زيد بن وهب: “إني لجالس مع عمرإذ جاءه ابن مسعود يكاد الجلوس يوارونه من قِصره؛ فضحك عمر حين رآه، فجعل يكلم عمر ويضاحكه، وهو قائم ثم ولى، فأتبعه عمر بصره حتى توارى فقال: كُنَيْف(وعاء) ملئ علما” وعندما بعثه عمر إلى الكوفة في صحبة عمار معلما ووزيرا، كان مما جاء في رسالته إلى أهلها “…وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي”.
وهناك في الكوفة يتولى تعليم الناس، إلى جانب مسئوليته عن بيت المال، وهي المسئولية التي تسببت في صدامه بسعد ابن أبي وقاص، عندما كان واليا على الكوفة، إذ اقترض سعد مبلغا من بيت المال ولما حان الأجل طالبه عبد الله بالمال، وكان سعد ذا عسرة فأبطأ، وتصاعد الخلاف إلى أن بلغ عثمان بالمدينة فعزل سعدا، وعين أخاه الوليد بن عقبة، ولم يتفق معه ابن مسعود فكان إذا تأخر عن الصلاة أمر ابن مسعود بإقامتها وصلى بالناس، وقيل أن الوليد كان عقورا للخمر، وروي أنه صلى الفجر بالناس أربعا ثم استدار وقال: هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم. وكان أهل الكوفة قد شكوه لابن مسعود فكان يقول لهم: “من استتر عنا بشيء لم نتتبع عورته”. لكن الثابت لدينا أن عثمان قد أمر الإمام علي بجلد الوليد حدا على شرب الخمر، كما أنه عزله بعد خمس سنين من ولايته على الكوفة.
ماذا عن الخلاف بين ابن مسعود وعثمان؟ وهل تطور إلى العزل والمخاصمة بسبب ما تردد عن امتناع ابن مسعود عن تسليم مصحفه، عندما قرر عثمان جمع القرآن؟ وهل رجل بقيمة وقامة ابن مسعود يغض الطرف عنه في مسألة جمع القرآن وهو من هو وقد شهد له الجميع بأنه كان أعلم الناس بكتاب الله؟ وما صحة واقعة ضرب ابن مسعود وسحبه خارج المسجد حتى انكسر ضلعان من أضلاعه؟
من الواضح أن الخلاف كان بسبب استبعاد عبد الله بن مسعود من اللجنة التي شكلها عثمان برئاسة زيد بن ثابت لجمع المصحف، وإذا كنا لا نستطيع إنكار مكانة زيد إلا أنه لا يمكن مقارنته بابن مسعود الذي أعلن تحفظاته الخطيرة على ما توصلت له تلك اللجنة بخصوص ترتيب السور، ووضع بعض الآيات في سورها، السبب الآخر لاحتدام الخلاف هو أن الوليد بن عقبة أخا عثمان من أمه عندما ولي الكوفة أكثر من أخذ المال من بيت المال دون أن يرده، ولما بلغ الأمر حدا لا يمكن السكوت عليه شكاه ابن مسعود لعثمان الذي جاء رده محبطا إذ قال: “…إنما أنت خازن لنا” يعني ليس من حقك أن تراجع الوليد في هذا الأمر، وقيل أنه استقال بعد ذلك وقيل أنه عُزل.
عاد ابن مسعود إلى المدينة بعد استدعائه من قبل عثمان، وكان أهل الكوفة قد اجتمعوا وقالوا له: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه. فقال: “إن له حق الطاعة، وإنها ستكون أمور وفتن، فلا أحب أن اكون أول من فتحها”. مَثُلَ ابن مسعود بين يدي الخليفة ودار بينهما حوار أسفر عن أمر عثمان بضربه وسحبه خارج المسجد ومنع العطاء عنه وإلزامه داره، وعندما اعترض الإمام على والسيدة عائشة على ذلك، ادعى عثمان أن ابن مسعود دعا أهل الكوفة للخروج عليه، وقال عن عثمان أنه مهدر الدم، بالطبع فإن ذلك ليس له أساس من الصحة.
استمر ذلك عامين إلى أن حضرت الوفاة ابن مسعود، وقيل أن عثمان عاده واسترضاه فما رضي، وقد أوصى ابن مسعود الزبير وكان النبي قد آخا بينهما، كما أوصى ابنه أبو عبيدة بكلمات قليلة: عليك بتقوى الله وليسعك دارك ولتبك على خطيئتك. وكانت البشارة قد أتته إذ لقي رجلا فقال له: “لا تعدم حالما مذكرا رأيتك البارحة ورأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على منبر مرتفع وأنت دونه، وهو يقول: يا ابن مسعود هلم إلي، فلقد جُفِيتَ من بعدي” فتهلل بشرا للقاء رسول الله وما هي إلى أيام حتى لقي الأحبَّة رضي الله عنه وأرضاه.