رؤى

من ذاكرة المكان.. “رشيد” مدينة لا تعرف الهزيمة

وقف الملك “مينا” يراقب قواته أثناء تحركها إلى الشمال مزهوا، فها هو يقترب من تحقيق حلمه بوحدة البلاد تحت حكمه.. لم يجد الملك الجنوبي كبير مقاومة وهو يغزو الشمال الذي وقع أسير الفرقة والصراعات الداخلية لفترة طويلة.. لكن الأخبار جاءته بوجود مقاومة ضارية على ضفاف الفرع “البولبيتى” قرب البحر.. مقاومة تعتمد على الهجمات الخاطفة والكمائن، أكثر مما تعتمد على المواجهات المباشرة.. يقرر “مينا” أن يتقدم بنفسه ليضع حدا لذلك الصمود الذي يبديه أهل تلك المناطق.. عندما رأى الملك تلك الأساليب القتالية لم يخف إعجابه؛ لكنه لم يرد أن ينتقل ذلك الإعجاب إلى قواده.. فصاح غاضبا: “رخيتو” مكررا الكلمة أكثر من مرة.. كانت الكلمة تعني الدهماء أو الرعاع أو عامة الناس ممن لا يعرفون شيئا من النظام أو الترتيب، صارت الكلمة لصيقة بتلك المناطق، ثم تحولت بمرور الوقت إلى الاسم القبطي “رشيت” قبل أن يتعرب الاسم فيصير “رشيد”.

الصمود والتصدي للأعداء وعدم القبول بوجودهم على أية حال –أمر وثيق الصلة بتلك البقاع وأهلها؛ وتشير المصادر التاريخية إلى أن رشيد شهدت أول انتصار كبير يحققه جيش مصر على الأعداء القادمين من الغرب (اللوبيون والإغريق والصقليون) إذ دارت رحى تلك المعركة على أرض “رشيد” في عهد الأسرة التاسعة عشرة.. كما أصبحت المدينة التاريخية عام 663 ق.م مركزا عسكريا عرف بالمعسكر “الميليزي” الذي جعله الملك “بسماتيك” الأول مقرا لاستقبال جنوده الآتين من جزر المتوسط.. وكان الهدف هو تأمين حدود مصر الغربية ضد هجمات “اللوبيين” وضد هجمات الآشوريين الآتية من الشرق.. ثم تضاءلت أهمية المدينة رويدا رويدا بعد إنشاء الإسكندرية التي صارت عاصمة لمصر.

جدارية الملك مينا
جدارية للملك مينا

دخل العرب ثغر “رشيد” صلحا بعد دخولهم الإسكندرية بقليل، وتشير المراجع إلى أن حاكمها البيزنطي “قزمان” قد أدى الجزية عن أهل المدينة للمسلمين، وظلت المدينة بعيدة عن الاضطرابات الكبرى إذ كانت تعد من أهم المراكز الدينية في مصر آنذاك.. وفي عام 132هـ عرفت “رشيد” الثورة ضد حكم مروان بن محمد الأموي، لكن هذه الثورة سرعان ما أخمدت على يد حملة جردها الأموي على المدينة.. وتم التنكيل بأهل المدينة الذين كانوا بعد ذلك من أول المناصرين للعباسيين، ولكن للأسف لم يحفظ العباسيون لهم الجميل، وساموهم سوء العذاب؛ فكان أهل “رشيد” في طليعة الثائرين على حكم بني العباس فيما عرف بثورة البشموريين ويذكر أن موقع المدينة الحالي ليس موقعها الأول، بل هو الموقع الذي نقلت إليه في عهد أحمد بن طولون عام 256هـ.

وقد شهد العام 306هـ معركة بحرية على سواحل “رشيد” بين العباسيين والفاطميين انتهت بتدمير أسطول المهدي ومقتل كثير من رجاله، ووقوع البعض في أسر العباسيين.

ونظرا لكثير من الظروف المناخية والاقتصادية والسياسية –وقعت المدينة العريقة في جُب النسيان لحقب تاريخية طويلة، ولم تستعد أهميتها سوى في عصر المماليك الذين عمروها بالمساجد والمدارس والحمامات، والمنشآت الحربية، فعاد إليها كثير من أهلها الذين غادروها إلى المدن المجاورة.. ويذكر المؤرخ “ابن دقماق” أنَّ رشيد استفادت كثيرا مما نزل بالثغور المصرية من أهوال  جرّاء هجمات الصليبيين المتلاحقة أواخر عصر المماليك؛ ما أصاب تلك المدن بالإنهاك الشديد.. فكانت تلك فرصة لـ “رشيد” لتستعيد مجدها التليد، وكما يقولون “مصائب قوم عند قوم فوائد”.

ويذكر أن السلطان “قايتباي” بنى قلعة برشيدعام877هـ، بعد ذلك بنحو أربعة عقود بنى السلطان “قنصوه الغوري” سورا  يحمي المدينة من ناحية البحر، وزوده بعدد من الأبراج الحربية.

قلعة قايتباي بمدينة رشيد
قلعة قايتباي بمدينة رشيد

وقد تعرضت المدينة أواخر عصر المماليك للعديد من غزوات القبارصة لكن أهل “رشيد” كانوا يردوهم عن المدينة ويهزمونهم شر هزيمة، وقد جرد السلطان “برسباي” حملة لتأديبهم انطلقت من “رشيد” ووصلت إلى قبرص، وحدثت مواجهات بين الفريقين استمرت لبعض الوقت، وعادت الحملة سالمة.. وكفَّ القبارصة عن مهاجمة “رشيد” بعد ذلك لفترة طويلة.

مع بداية احتلال العثمانيين لمصر عام 1517م زادت أهمية ثغر “رشيد” حتى صار الثغر المصري الأول، فزادت حركة التجارة به، وعَمُرَ بالمساجد والمنشآت والوكالات والمحال التجارية.. فكان حجم المتداول من الذرة في “رشيد” في حملة لضبط الأسعار عام1031هـ ضعف ما تم تداوله في ثغر “دمياط”.

بعد تراخي قبضة العثمانيين على البلاد عاد المماليك من جديد يسومون الناس سوء العذاب، وكان لـ “رشيد” النصيب الأوفر من الظلم، والضرائب المستحدثة، ومنها الضريبة على الغلال المُصدّرة.. حتى ضجَّ الناس بالشكوى من إجرام رجال مراد بك الذي كان يتقاسم السلطة آنذاك مع إبراهيم بك.

وعندما دخل الفرنسيون مصر عام 1798م احتلوا المدينة، وأطلقوا على قلعتها اسم “جوليان” بعد ذلك بثلاث سنوات جرت معركة شهيرة بينهم وبين الإنجليز بالقرب من المدينة هزم فيها الفرنسيون بعد صمود طويل.. وقد نالت المدينة شهرة كبيرة أثناء الحملة بسبب اكتشاف حجر “شامبليون” بها.

في 21 مارس 1807 م، تصدى أهالي رشيد بقيادة محافظها علي بك السلانكي للحملة الإنجليزية بقيادة الجنرال “فريزر” وكان الإنجليز قد انتهزوا فرصة الصراع بين محمد علي والمماليك وضعف الجبهة الداخلية، فاتفقوا مع محمد بك الألفي زعيم المماليك على دعم الحملة البريطانية، في مقابل أن تساعد إنجلترا المماليك في الاستيلاء على حكم البلاد.

كان الجنرال فريزر في الإسكندرية، قد تلقي تقريرا من قنصل إنجلترا في رشيد عن حالة مصر وما بها من قوات؛ ما جعله يزحف برا إلى “رشيد” لاحتلالها، واتخاذها قاعدة حربية لقواته، وكلف القائد “ويكوب” بهذه المهمة العسكرية.

تحرك الإنجليز في (1600) جنديا من الإسكندرية إلى “رشيد”. وقد “عزم محافظ إقليم “رشيد” علي بك السلانكي وقواته الـمقدرة بـ (‏700‏) جندي، على مقاومة عساكر الإنجليز، واستنفر الشيخ حسن كريت الأهالي للمقاومة الشعبية، فأمر بإبعاد المراكب المصرية من أمام شاطئ النيل بـ “رشيد” إلى البر الشرقي المقابل عند الجزيرة الخضراء وبرج “مغيزل” بمركز “مطوبس” لمنع الأهالي من ركوبها والفرار من المدينة، حتى لا يجد رجال حاميته وسيلة للارتداد أو الاستسلام أو الانسحاب، كما فعلت حامية الإسكندرية من قبل. أصبحت الحامية بين الأهالي متوارية بالمنازل داخل مدينة “رشيد” لا مناص أمامهم إلا القتال والمقاومة، وأمرهم بعدم التحرك أو إطلاق النار إلا بعد صدور إشارة متفق عليها، فتقدم الإنجليز ولم يجدوا أي مقاومة، فاعتقدوا أنَّ المدينة ستستسلم كما فعلت حامية الإسكندرية، فدخلوا شوارع المدينة مطمئنين، وأخذوا يستريحون بعد السير في الرمال من الإسكندرية إلى “رشيد” وانتشروا في شوارع المدينة والأسواق للعثور على أماكن يلجئون إليها ويستريحون فيها. وما كادوا يستريحون، حتى انطلق نداء الآذان بأمر “السلانكي” من فوق مئذنة مسجد “سيدي زغلول” مرددا: الله أكبر، حي على الجهاد. فانهالت النيران من الأهالي وأفراد حامية “رشيد” من نوافذ المنازل وأسطحها‏،‏ فقتل جنود وضباط من الحملة، وهرب من بقي حيا.

بلغت خسائر الإنجليز (185) قتيلا و(282) جريحا و‏(120‏) أسيرا لدي حامية رشيد‏،‏ وأتي محمد علي بقواته بعدما انسحب الإنجليز للإسكندرية، وفاوض الباشا الجنرال “فريزر” على الانسحاب من مصر التي غادرها مع قواته، وأحبط أهالي رشيد المشروع البريطاني لاحتلال مصر”.

كان لهذا الانتصار أثر عظيم في رفع الروح المعنوية للمصريين جميعا، كما أزال هيبة الإنجليز من النفوس، ودُحرت المماليك المتحالفة معهم إلى الجنوب يجرون أذيال الخيبة.. “وقد بادر علي بك حاكم رشيد بعد الموقعة الى إنفاذ الأسرى الإنجليز الى القاهرة، ومعهم رءوس قتلاهم، ليكون ذلك إعلانا للنصر الذي نالته “رشيد” ثم ليبعث هذا المنظر في نفوس الجنود والشعب روح الأمل والثقة، وكان يوم حضروهم يوما مشهودا”.

لقد سطرت المدينة العريقة أروع صفحات البطولة في تاريخ مصر.. لكنها مازالت تعاني إلى يومنا هذا آثار الإهمال والنبذ.. وكأن هذا هو قدر المدن العظيمة الصامدة على الدوام في وجوه الأعداء والغاصبين.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock