رؤى

شبابنا يتجهون صوب الشرق نحو الحلم الكوري والياباني بعد قرنين من الإتجاه غربًا

أجيال جديدة تتشكل وتفكر بطريقة تخرق كل القواعد التى استقرت لدينا منذ زمن طويل، عاينت هذه الحقيقة بنفسى عندما أفصحت لى ابنتي الكبرى الطالبة بالصف الأول الإعدادي بإحدى مدارس اللغات عن حلمها بالسفر إلى كوريا الجنوبية لتبدأ حياتها العملية عندما تنتهى من الدراسة، توقفت كثيرا عند الوجهة التى اختارتها لنفسها، وأثار استغرابى تفضيلها لهذا البلد الأسيوي على بلدان أوروبا وأمريكا.. تلك البلاد التي وقعنا في غرامها منذ الصبا، واستعصى حلم الوصول إليها على الكثيرين منا.

هالنى الأمر بعد أن بدأت رحلتى لمعرفة سر الحلم الكورى الذى يرواد ابنتي الصغيرة، والذى لم تسمع به أجيالنا من قبل.. نحن الذين لم نر أرضا للأحلام إلا فى الغرب، فليس هذا شططا منها كما ظننت فالكثير من الشباب الأكبر منها سنا والذين يدرسون فى تخصصات جامعية مختلفة يشاركونها الحلم الشرقي. ولكنى لمست انقساما واضحا فيما بينهم.. فبينما يحلم  البعض أن يطرق أبواب اليابان، فإنَّ آخرين يفضلون في المقابل كوريا الجنوبية.

كيف يمكن أن يستقيم حلم كهذا مع وجود حاجز كبير؛ يتمثل في اللغتين اليابانية والكورية اللتين يصعب على الكثيرين تعلم أي منهما؟ وجاء الرد حاسما بعد أن خضت نقاشا موسعا مع مجموعة من الشباب، وهو أنَّ إتقان الانجليزية يفتح اليوم الكثير من الأبواب المغلقة.

يُعزى جزءٌ كبيرُ من الهيام باليابان لدى الشباب إلى “الأنمي” وهى الرسوم المتحركة اليابانية والتى تلقى رواجا كبيرا فى أوساط المراهقين والشباب، ويشاركهم الأطفال الأمر نفسه، وقد جاءت فكرة “الأنمي” انطلاقا من الرغبة في تحويل شخصيات “المانغا” اليابانية إلى أبطال يتجسدون في أفلام ومسلسلات.

وهناك رواج كبير اليوم لا تخطئه عين لكتب “الأنمي” بين الشباب والمراهقين فى المصرى إلى حد أنَّ هناك عدد كبير من المحلات المتخصصة التى تبيع ملابس تزينها شخصيات “الأنمي” ويتهافت الشباب على شرائها، ويتطلب الأمر أن يتم حجزها بشكل مسبق.

أمَّا الوَلَهُ بكوريا الجنوبية فيرجع بصورة رئيسية إلى موسيقى “الكيبوب” الكورية التي تلقى رواجا كبيرا فى أوساط الشباب المصري، بحسب ما كشفه لى أكثر من شاب تحدثت إليهم مؤكدين أنَّهم يعشقون الاستماع إلى فرقة “بي تى اس” وخاصة أغنية “ديناميت”.

“سول” نفسها أعلنت فى وقت سابق، أنَّها ستستغل هذا الانتشار الكبيرلموسيقى “الكيبوب” فى الترويج لأبجدية “الهانجول” الكورية حول العالم معلنة عن إنفاق (75) مليون دولار في هذا الصدد ومعربة عن أملها فى أن يزداد الاهتمام بالفن والثقافة الكورية حول العالم.

هذا مؤشر واضح على أن أقطاب العالم الثقافية تتغير.. وبعد أن كنا لسنوات طوال فى طفولتنا وشبابنا أسرى لـ “سبايدرمان” و”سوبرمان” ومنجذبون بالكلية لكل مخرجات أوروبا وأمريكا من منتجات ثقافية وشخصيات كرتونية، بل ووجبات سريعة.. لنرى اليوم أجيالا جديدة، لم تعرف شيئا عن “شرلوك هولمز” ولكنها تدمن مشاهدة المحقق “كونان” فى مؤشراواضح على أن البساط يسحب بصورة أو بأخرى من تحت أقدام الثقافتين الأمريكية والأوربية لصالح الثقافتين اليابانية والكورية اللتين تزحفان بسرعة شديدة لتشكيل عقول ووعى الكثير من الشباب.

ليست وحدها الثقافة هى العامل الذى يدفع أعداد متزايدة من شبابنا إلى الحلم بالسفر لكوريا واليابان لصناعة مستقبلهم هربا من عراقيل عدة يقولون أنَّها ربما تعيقهم فى الداخل فهم يرون أنَّ عليهم البحث عن وجهات جديدة فى ظل القيود المتزايدة التى بات الأوربيون والأمريكيون يضعونها على حركة السفر إلى بلادهم خاصَّة إذا كان الأمر بغرض البحث عن عمل وخاصَّة فيما يتعلق بالعرب والمسلمين.

محمد شاب يدرس البرمجة، فى إحدى الكليات المتخصصة، يقول أنَّه يحلم هو والكثيرون من أقرانه بالسفر إلى كوريا الجنوبية، لأنها نجحت في تحقيق نهضة صناعية جعلتها فى مصاف القوى الكبرى فى العالم ويضيف أنَّ أحد أقاربه يعمل هناك بالفعل فى مصنع تابع لأحدى الشركات الكبرى ويتحدث كثيرا عن الفرص التي يوفرها هذا البلد خاصة للشباب المحترفين.

ولم يختلف كلام أحمد طالب الهندسة عن رفيقه طالب البرمجة، لكنَّه يبدو أكثر اقتناعا بأنَّ الدول الأسيوية أكثر اقترابا منا، وعلى الأقل فإنَّهم لا ينظرون إلينا بذلك القدر الكبير من التعالى الذى يحدث عادة من الغربيين، عندما يتحدثون عن الشرق الأوسط الغارق فى الحروب والصراعات.

حوارات مع الشباب كشفت عن عقليات واعدة؛ تفكر بطريقة ابتكارية خارج حدود الصندوق الذى قبعت بين جدرانه أجيال ممن أصابتهم الشيخوخة الفكرية مبكرا بعد أن حوصروا بإحباطات لاحد لها.

تتفق أو تختلف مع هؤلاء الشباب؛ لكنك يجب أن تحترم وجهات النظر التى خرجوا بها بمفردهم خلال سنوات عمرهم القصيرة، يكفيهم أنَّهم تخلصوا من عقدة الشرقى الذى تسوِّل له نفسه أن يهب بطيب خاطر تحويشة عمره لأحد سماسرة الهجرة غير الشرعية ليلقى به وسط أمواج البحر العاتية، ويواجه مصيره بنفسه على وهمٍ، نادرا ما يتحقق بالتسلل إلى هذه الدولة الأوربية أوتلك.

القناعة التى خرجت بها من هذه الحوارات؛ أنَّ الأجيال الجديدة تبحث عن مهارات جديدة يمكن أن تتسلح بها خلال رحلتها للسفر؛ بحثا عن فرص وظيفية أو علمية، الانطباع الذى يخرج به المرء من النقاش معهم أنَّهم يعلمون جيدا موضع خطوتهم القادمة.

لست بالطبع منحازا بالكلية للغرق فى بحر الثقافتين اليابانية أو الكورية، أو الانغماس فى أحلام السفر إليهما دون روية؛ فالقراءة النقدية لكل المنتجات الثقافية تبقى أمرا مسلما به، كما أنَّ وطنا كبيرا هو مصر يستحق، وهو يجاهد من أجل استعادة عافيته أن نثابر من أجل السفر فيه وليس منه.

لكن الأحلام تبقى حقوقا مشروعة، ورغبات عادلة لايجب أبدا أن تُصَادر أو تُقَاوم، ويبقى الرهان على الوعى مفصليا، فى إطار الحفاظ على هوية تتعرض لتحديات شتى فى عالم يتجه سريعا إلى ما يسمى بعصر الـ”ميتافيرس”.

فى المقابل فإنَّ كل المؤسسات الثقافية والتعليمية والتربوية مَدْعُوَّة لأن تبذل جهدا أكبر فى بناء جسور تواصل مع شباب يعيش عصرا تتعاظم فيه تأثيرات مواقع التواصل والثقافات العابرة بصورة لم تخطر من قبل على عقل بشر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock